ثقافة وفنون

«تصفيق مالح»… تبرّئ كاتبها من إثم حرب البلاد!

} محمد رستم*

قبل الحديث عن المجموعة القصصيّة أقول، إن الكلمة ما كانت يوماً إلاّ رسالة.

من هنا نفهم معنى أن يبدأ الكتاب المقدس بقول: «في البدء كان الكلمة» وفي القرآن الكريم وفي سورة الرحمن ورد قوله تعالى «علّمه البيان»، لذا أقول منذ أن علّم الخالق آدم الأسماء كلّها كانت الكلمة رسالة موجّهة نحو الآخر وتتبدّى جماليّة هذه الرسالة في الأدب من خلال التخفّي والمواربة والتشفير فكل أقصوصة من المجموعة التي بين أيدينا تومئ لنا بمؤدّى فكري طازج وبرسالة مفعمة بالكثير من الأحلام..

ومن العنونة نبدأ.. لأنّ العنونة هي العتبة الأولى لولوج المنجز وكثيراً ما تكون تكثيفاً حاداً لمجمله.

لقد اختار الكاتب عنوان إحدى أقاصيصه وسماً علوياً للمنجز «تصفيق مالح»، فقدّم الخبر الموصوف بعد أن أودع المبتدأ طي الكتمان ليترك للقارئ حرية التقدير. هذا وقد جاءت بنية العنونة مركبة على ما يسمّى تراسل الحواس بين حاسة السمع وحاسة التذوق ونلمح كيف ذهب الكاتب نحو فخّ العنوان الغاوي في معظم أقاصيصه السابقة «صقيع إيديولوجي»، «حب من أول لايك»، «شاعر عقاري»، «عائلة السيليكون»، «حطب أنثوي ومنخفض وطني»، لتنضوي المجموعة في بعد تحت لافتة قصص المناسبات على غرار قصائد المناسبات. إذ إنها بالكامل لا تخرج عن دائرة تصوير جوانب من واقع المجتمع السوري بعد المؤامرة الكونيّة عليه وكيف أتت الحرب على تطور هذا المجتمع وأحالته رماداً فمضى الكاتب يرسم التيه اللانهائي في المدارات الجماليّة العائمة من حوله.

لقد لفّ الكاتب الوطن النازف في صرّة خيالاته وبدأ يهز إلينا بجذع الألم المعرّش في أغصان الحارات فتسّاقط الخيبات والحسرات..

وكأنّ الكاتب قد أدمت صبره أشواك الترقّب. ترقّب الوصول إلى المرفأ الأخير ولم يعد لديه متسع ليأخذ نفساً من أوكسجين الارتياح وهدوء البال..

فغدا كل همّه الخروج من عصور الردى والإثم والوصول إلى الوعي والذي به وحده يخرج الوطن من غرفة الإنعاش سليماً معافى..

فتناولت أقاصيصه موضوعات هامّة من مثل النفعيّة والانتهازيّة مرض اجتماعي في أقصوصة «شاعر عقاري» محاباة من تغطّى ولو بطرف رداء بسيط من المسؤوليّة في «تصفيق مالح» التشبّث بالأفكار المحنّطة في «هولاكو» الفساد في «مغص رسمي» مضار النت على العلاقات الأسريّة «حبّ من أول لايك» مأساة من ضحى في سبيل الوطن ووضع في قائمة النسيان «حضن الوطن»..

 فيبدو الكاتب وكأنّ هم الوطن لديه صخرة سيزيف.. كيف لا وهو يرى بعيني زرقاء اليمامة فيبدو وطنه مكشوف الظهر بعد عصف مؤامرة أحرقت الأخضر واليابس ولفظت بأقدام الخوف الكثير من أبنائه إلى المنافي كل ذلك بسبب جهالة كاملة الدسم تغلّف عقول الكثير من أبنائه..

لقد أراد الكاتب لمجموعته هذه أن تكون سفيرة للوجع والهم الإنساني الذي يقض مضجع الوطن فجاءت المجموعة وكأنّها هويّة المجتمع السوري الخارج توّاً من تحت رماد المؤامرة..

فالمسارب السوداويّة والمناخات الكئيبة تظلل معظم جوانب القصص..

ولعلّ شهوة الكاتب الملحّة للإصلاح وشغفه بتغيير الواقع دفعه إلى اعتلاء صهوة المباشرة في بعض تلك الأقاصيص. إذ يبدو الكاتب مشتعلاً بالحياة في كل لحظة لذا فإنّ عينه دائماً تتطلّع نحو الإمساك باللحظة التي تضجّ بهموم الناس وشواغلهم الضاغطة.

 ومن هذا الامتداد المحزن لآلام الناس يصوغ الكاتب بهائيّة جمالية وكأنّه يرسل غمامة من سحر تغمر كل اليباب.

فشخصيّاته محاصرة بالظلمة والإخفاق وبالكثير من الخيبات وكأنّهم وقعوا تحت عجلات قطار الحياة بعد أن قدّموا لوطنهم كلّ ما لديهم وكانوا وقود انتصاره.

لقد وظّف الكاتب الواقع السوري لبناء متونه الحكائيّة واقعاً مفخخاً بشراك الحرب الموت، الفقر، التخلّف، الإعاقة، هي من الآخر، حياة منقوصة النبض..

عرض ذلك من خلال صور دلاليّة بالغة العمق والتأثير تختزن هواجس وأحزان الكاتب. هذا وقد حقق الإرضاء الجمالي من خلال تساوق الفكرة مع البناء الفني للأقصوصات معتمداً في التناول وإدارة دفّة الأحداث على السارد العليم من منظور الضمير الغائب وهذا ما أتاح له حريّة الحركة وقد وظّف الكاتب إمكاناته الفكريّة والتخييليّة وخزينه المعرفي والثقافي فجاءت الشخصيّات في سياق فني متخيّل لا يبتعد كثيراً عن الواقع الموضوعي بل إنّ هناك تداخلاً مدروساً بحرفيّة عالية الجودة بين الواقع والخيال. وهذا ما يمنح المنجز صدقاً فنيّاً وتنوعت الصراعات في المجموعة بين الظاهر البسيط والنفسيّ المعقّد مما أضفى على العمل ديناميكيّة دراميّة وإثارة نفسيّة على مدار الأحداث وبتلقائيّة ويسر يضعك في قلب الفكرة من خلال حبكة متقنة بينما يطوحك بمتعة الترقب ترقب القفلة التي كثيراً ما تأتي مباغتة مناوئة مدهشة..

ولما كانت اللغة هي طين الإبداع فقد اعتمد الكاتب رشاقة السرد وخفّة الروح ما يسترعي الانتباه ويشدّ القارئ وبذا يجعل من لغته السرديّة جزرة غواية فكثيراً ما يعتمد صهيل الحبر الجامح والمتماهي مع الشعر (لملمت القرية أطفالها من الطرقات ودسّت كلّ عصافيرها في عباءات الشجر الخضراء.. تدثرت البيوت والتلال بالهدوء وتكحلت بانتظار القمر..) ونجد الفكرة بلغة ذكيّة (قرع الأنخاب مع صلاح الدين وخوزق مرج دابق.. حتى وصل للنكبات والنكسات فكنسها جميعاً على عتبة التاريخ البيضاء)، فالمجموعة بالكامل تنم عن نضج الأدوات الفنيّة للكاتب إذ تشكّل معادلاً تعبيرياً وجمالياً وفكرياً عن واقع اكتوى الكاتب بنار مأساته..

ويشكّل هذا المنجز إضافة جميلة إلى عالم القصة القصيرة مما يؤكد انتساب كاتبه لأسرة الأدب الراقي الموضوعي.

 

*كاتب سوري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى