نقاط على الحروف

نبيه بري المدرسة… فما هي الدروس؟

 ناصر قنديل

يعتبر الكثيرون ممن قرأوا كتابي 6 شباط الثورة التي لم تنته الصادر عام 1985، عن انتفاضة السادس من شباط 1984، التي ولدت من رحمها زعامة الرئيس نبيه بري، أنه أول كتاب للتبشير بولادة هذه الزعامة، والكتاب، الذي قدّمه الرئيس بري، رغم معالجته لأحداث بحجم الاجتياح الإسرائيلي ومشروع اتفاق 17 أيار وتجربة المقاومة في انطلاقتها، لا أنكر أنه يدور حول محور هو نبيه بري، ولم يزعجني حينها أن أسمع تكرار هذا الوصف، وقد تعرّفت بالرئيس بري قبل ذلك بأعوام عندما عدتُ من الجنوب بعد مشاركتي في مقاومة الاجتياح الإسرائيلي عام 78، وتولينا الرفاق في رابطة الشغيلة وأنا منهم، إصدار صحيفة صوت الشغيلة اليوميّة وإطلاق إذاعة صوت الثورة العربية، كمنابر للمعارضات العربية، وقد احتلت المعارضة العراقية يومها، التي تتوزع مسؤوليات الحكم اليوم بتلاوينها الإسلامية والقومية والكردية، مساحات أساسية في المنبرين، وكان المقرّ الرئيسي في ملجأ المبنى الذي يسكنه الأمين العام للرابطة النائب والوزير السابق زاهر الخطيب، وهو المبنى ذاته الذي يسكنه الأستاذ نبيه بري، الذي عرفنا أنه هدف أمني للمخابرات العراقية التابعة للنظام السابق ومثلها للمخابرات الليبية، بصفته الناطق الرسمي بلسان حركة أمل التي كانت تحت وطأة الغضب من إخفاء من مؤسسها الإمام السيد موسى الصدر، وكان قرارنا أن نحمل مسؤولية مواجهة أي استهداف يسعى للنيل منه، بينما كانت حركة أمل في تلك الأيام تدفع فاتورة موقفها المشابه لموقفنا في إدانة اغتيال السيد محمد باقر الصدر، ودعم ثورة الإمام الخميني في إيران، وفوقهما فاتورة متابعة قضية إمامها المغيّب.

كنت في العشرين وكان في الأربعين، ولا أنسى كم كانت المعاناة في توزيع صحيفة صوت الشغيلة في مناطق نفوذ حركة أمل في الضاحية الجنوبية، باعتبارها صحيفة يساريّة، لكنني بالتأكيد أذكر كم من مرة كان الأستاذ، كما يناديه الأصدقاء، والأخ نبيه كما يناديه الحركيون على اختلاف مراتبهم، ومولانا كما كنت أحب مخاطبته، بلغة المشايخ، يصرّ على مرافقتي إلى الأحياء التي تقع فيها الإشكالات، ويجمع عناصر حركة أمل ويشرح لهم موقفه الداعي للترحيب والتعاون مع الجريدة وموزّعيها، وأنا منهم، ومرة أخذ مني أعداداً من الجريدة ليقوم بتوزيعها أمام عناصر الحركة في الأوزاعي ليقدّم لهم المثال على الموقف. وهو يعلم أنني كنت أسهر الليل أكتب افتتاحية الجريدة وعناوينها ومن ثم أطبعها على الآلات الضخمة القديمة، وأكمل الليل بالنهار لأقوم بتوزيع نصيبي منها، وأذكر كم من مرة اكشتفنا محاولات للنيل من الأستاذ، وكم من مرة جاء الأخ أبو إياد رحمه الله، إلى منزل الأستاذ زاهر الخطيب لتسلم المشتبه بقيامهم بهذا الاستهداف مزوّدين ببطاقات من أجهزة أمن فلسطينية لتغطية القيام بمهامهم المشبوهة. وفي هذا التلاحم السياسي والشخصي نشأت علاقة لا أظنّ أنه من السهل تفسيرها، إلا على قاعدة أنه وجد في نكهتنا اليسارية مطلباً للمساهمة في إخراج بعض الطائفية التي تلقي ظلالها على الحركة التي يتهيأ لقيادتها، وأننا وجدنا فيه المشروع القياديّ الوطني القادر على ترجمة العلاقة بين الدين والتغيير، قبل أن تتبلور معالم تجربة الثورة الإيرانية وتنتصر، فيحلّ لنا عقدة علاقة اليسار بالمجتمع.

خلال أكثر من أربعين سنة مضت، لستُ بوارد سرد محطاتها الكثيرة، ولدت في مطلعها رئاسة بري لحركة أمل، وجاء الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 اختباراً تاريخياً لقيادته، فكان قراره بإرسال خيرة كوادر الحركة العسكريين إلى الجنوب لملاقاة القوات الإسرائيليّة المتقدمة، وترافقنا سوية، إلى جبل صافي فإقليم الخروب فخلدة، حيث المعركة الشهيرة مع قوات الاحتلال التي قاتل فيها شباب أمل بكل بسالة، ونجحوا بضرب دبابات جيش الاحتلال وأسر بعضها، وصولاً للدفاع عن بيروت، حتى دخلها جيش الاحتلال، ولا أنسى يوم أخذ من يدي بندقيتي عندما ساد الهرج والمرج في الشارع الذي يقع فيه المبنى المشترك، والناس تقول إن الإسرائيليين قادمون، ولأنني أعلم أن المقال لا يتسع لسردية كافية للتاريخ، وأعلم أنني قررت الكتابة ليس لأتحدث عن نبيه بري، أو لألقي الضوء على بعض هام منه وربما جديد لا يعرفه الكثيرون عنه، بل قرّرت الكتابة في المناسبة لأنني أعتقد أنه أسس لمدرسة يحتاج اللبنانيون للاطلاع على دروسها، محاولاً الاكتفاء بثلاثة منها.

ينتمي الرئيس بري لثقافة دولة لا مكان فيها للمحاصصة، وقد يستغرب الكثيرون هذا القول ويعتبرونه مجاملة وربما نفاقاً، وأنا طبعاً لا أريد نيابة ولا وزارة ولا منصباً لأجامل أو أنافق، لا سمح الله، لكنني أشهد بما أعلم عن كثب ولديّ شواهد لا تقبل النقض. فنظرية «على السكين يا بطيخ» التي تنسب إلى بري لاحقة وليست سابقة لمنهجه الأول، الذي أورد عليه شاهدين، أولهما، ما جرى في قمة بكفيا عام 1985 عندما عُرضت عليه تسوية سياسية تقوم على نيل منصب نائب رئيس للجمهورية يتقاسم الصلاحيات مع الرئيس بنصوص دستورية، ورفض، مصراً على الإصلاح السياسي للنظام الطائفي وفي المقدمة دعوته لإلغاء الطائفيّة ضمن مهلة زمنية محددة، وثانيهما في مطلع التسعينيات عندما تبلغت من الرئيس إميل لحود كقائد للجيش أنه لن يكمل مسؤوليته إذا أصرّ السياسيون على محاصصة الفائزين في امتحانات المدرسة الحربية، معتبراً أن موقف الرئيس بري يشكل له المقياس فإن دعمه بامتحانات لا تعتمد إلا الكفاءة فهو قادر على التكفل برفض باقي الضغوط وصدّها، وعندما راجعت الرئيس بري، وطلب إليّ أن أتحدث للجنرال لحود ليأتي إليه، وكان اللقاء قال بري: «هات لائحة الأسماء المقدّمة من حركة أمل ومزّقها». وأضاف: اتكل على الله، لكن إنتبه أنت إبن جميل لحود، لا تتراجع ولا تهادن وإلا ستكون مشكلتك معي، ومَن يقف في طريقك ابلغني وأنا أحمي ظهرك». وكانت أول تجربة لتخطّي الحاجز الطائفي والمحاصصة السياسية في المدرسة الحربية، والدرس هو أنه لن يمرّ على لبنان مَن يرفض المحاصصة ويتمسك بمشروع دولة عابرة للطوائف بمثل ما فعل بري، لكن الجمع بين زعامة طائفة ومشروع دولة لا طائفية مستحيل. وهذا ما يجب أن يدركه الذين يكررون المحاولة من بعده ويحصدون الفشل، ولو توافر شريك من موقع طائفي مقابل يقول ما أثق بأنه إيمان بري العميق، فالفرصة متاحة لعبور آمن من تقاطع نفقين مظلمين، الطائفية والمحاصصة، والكلام برسم التيار الوطني الحر ورئيس الحكومة حسان دياب، ليكرّرا ما فعله الجنرال لحود ويكتشفا بري العميق، بدلاً من اتباع نظرية «على السكين يا بطيخ»، متذرّعين به كصاحب للنظرية، والكلام بمناسبة التعيينات وما جرى فيها.

خلال الاجتياح الإسرائيلي ولدت هيئة الإنقاذ الوطني، واختلفنا حولها، بعدما قرّر الرئيس بري المشاركة فيها وتلبية دعوة الرئيس الراحل الياس سركيس، وخيّمت غيمة الخلاف علينا شهوراً بسببها، لكن خلال شهور قليلة كان بري يقود الحملة لإسقاط اتفاق السابع عشر من أيار، ومن خلالها يطرح استقالة رئيس الجمهورية آنذاك الرئيس أمين الجميل ما لم يلغ الاتفاق. وتلاقينا في الطريق إلى الانتفاضة وفي مسار المقاومة، وخلال السنوات العشرين الأخيرة شهدت علاقة الرئيس بري بسورية الكثير من المطبات، لكنه كان فيها جميعاً، كما في علاقته مع الجمهورية الإسلامية في إيران، مستقلاً، لكنه صديق وفيّ وحليف لا يتخلّى، متمسك بموقع لبنان العربي وبوابة عروبته سورية، وسورية الأسد بلا لفّ أو دوران. والدرس هنا هو أن بري قدّم مثالاً يُحتذى يحرص عليه لوطنية لبنانية صافية، مؤكداً إمكانيتها الواقعية، في قلب الانتماء لمعسكر المقاومة والممانعة، ومن قلب علاقة التحالف مع سورية وإيران. وهو ما لم يستطع الآخرون تقديمه من مواقعهم المقابلة، في التحالفات الموازية، وفي العنوانين المذكورين من عناوين كثيرة، لم أذكرها، بري مسكون بهاجس هذه الوطنية اللبنانية التي يحالف ويخالف في خدمة التأسيس لها، يطوّع لحسابها شيعيته، وحركيته، كما تحالفاته، لأنها كانت وتبقى عنده الهم الأول، متسائلاً ربما في سره، إلامَ عليه الانتظار ليلاقي شركاء مشابهين يفهم عليهم ويفهمون عليه؟ ولعله استطاب أن يتخفف من أعباء الدور الإقليميّ الذي يحمله حزب الله اليوم في معارك المنطقة، ليتكامل معه ويسنده للفوز بها، لكن دون التفريط بدرة تاج مشروعه، هذه الوطنية اللبنانية الصافية.

يُحكى الكثير عن ذكاء وطرافة وثقافة الرئيس بري، ويُحكى أكثر عن مهارته ودهائه واستيعابه للكيمياء اللبنانية وكفاءته المذهلة في ملاعبتها، ويغمز الكثيرون من قناته في لعبة المصالح والمحميات، وربما يتحدث البعض واثقاً عن الاستهتار بالمال العام، وعن نيّات التوريث، وأن مرادف «على السكين يا بطيخ» هو «مَن حضر السوق باع واشترى»، وليست مهمتي هنا هي نفي المحسوبية، أو المحاصصة، ولغة المصالح، والمقربين المستفيدين، أو الأقرباء الأقربين، بل لأقدم شاهدين بليغين، الأول هو ما جرى خلال حرب العلمين الشهيرة بين حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي خريف عام 1986 وشتاء عام 1987، والإصرار والعناد اللذين أبداهما بري على تأمين حماية المصرف المركزي من وصول أي مجموعات غير منضبطة إلى محيطه، وكانت فيه سبائك الذهب، والكلام كثير عن مشاريع تقاسم، وبري يقول، وأنا شاهد على القول، إن ذهب الذهب ذهب لبنان ووقع التقسيم، والثانية عندما تجرأت وسألته بلغة الأخ المحبّ، قائلاً أطال الله بعمرك مولانا، لكن ماذا ادّخرت للناس من بعدك؟ فقال: «لك أقول وثق بقولي فليس فيه سياسة، لو كانت هناك وراثة في أمل لما كان نبيه بري رئيسها، ولو كانت خطط لخلافة في أمل لما كنت رئيسها أيضاً، وأمسك ديوان شعر لفتاة جنوبيّة في السادسة عشرة من عمرها وقال إقرأ، إن الشعب الذي تولد فيه هذه المواهب سيخترع قيادته، كما اخترع نبيه بري». والدرس هنا، هو رسم خطين أحمرين لمفهوم المحاصصة والمحسوبية إن كانتا من عدّة شغل السياسة، لا يجوز تخطيهما، هما الدولة كقيمة مطلقة والشعب كحق مطلق.

للأخ الكبير والصديق الذي تساقط شعري وشاب برفقته، أدعو بالصحة وطول العمر، وأقول إنه ثروة لبنانية نادرة ننعم بحضورها، وموهبة سياسية ثقافية، نضاليه ووطنية وعربية، لكنها مدنية أيضاً، وما أردته للذين لا يعرفون إلا نبيه بري الذي يرون، أن يتعرفوا على نبيه بري العميق، علّ لبنان يستفيد إن تعرفوا وعرفوا كف يستفيدون ويفيدون لبنان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى