أولى

المراوغة لا تحمي أموال الناس…!

 خالد الداعوق*

لا تخلو وسائل الإعلام المختلفة يومياً من سلسلة مقالات ومعلومات تتحدّث عن إجراءات قاسية ستتخذها الحكومة اللبنانية في إطار سعيها إلى تصحيح الخلل الاقتصادي المزمن الذي يعاني منه لبنان، وهو الخلل الذي أوصلنا إلى الكارثة التي نعيشها اليوم جميعاً.

النقطة الأبرز التي يتمّ التداول بها في هذا الإطار هي الـ «هيركات» أو اقتطاع أجزاء غير قليلة من الودائع المصرفية.

لا شيء رسمياً بعد، ولم يتوضح بعد حجم الاقتطاع ومداه ومن أين يبدأ وأين ينتهي. ربما يكون هذا الأمر مقصوداً حتى يتمّ التعرّف على كلّ ردود الفعل المحتملة في حال تمّ اتخاذ قرار من هذا النوع.

لكن ما يتمّ إغفاله، ربما عن قصد أيضاً، هو أنّ نسبة كبيرة من الودائع، لا سيما الودائع بالعملات الأجنبية، قد تمّ «اقتطاعها» بالفعل، ومنذ زمن، لأنّ كلمة اقتطاع هنا تشمل ما تمّ تهريبه إلى الخارج وما تمّ هدره ونهبه في الداخل من قبل الشركاء الثلاثة (الدولة والبنك المركزي والمصارف الخاصة).

إلا إذا كان ما يُحكى عن «هيركات» يُقصد به نهب ما تبقّى من ودائع، هذا إذا كان قد بقيَ شيء يُذكر! أو أنّ الأمر لا يعدو كونه قوننة ما تمّ سابقاً من نهب، وإعطاء المودعين ما تبقّى لهم بالعملة اللبنانية، بعدما تمّ أيضاً السطو على الفارق في السعر بين الليرة والعملات الأجنبية، والفارق بلغ بداية نحو 50 في المئة حين كان سعر الصرف بين 2200 و 2300 ليرة للدولار، ووصل الآن إلى مئة في المئة حيث لامس سعر الدولار الـ ثلاثة آلاف ليرة، فيما السعر الرسميّ في المصارف هو 1515.

كذلك حدّدت المصارف وجمعيتها، بالتفاهم مع المصرف المركزي، كمية السحب النقدي من حسابات المودعين بالليرة أو بالدولار مرة أسبوعياً، ثم مرة كلّ أسبوعين مع مبالغ أقلّ، ثم اليوم حيث لا يمكن للمودع أن يسحب ولو دولار واحد من حسابه، إذا استثنينا طبعاً بعض السياسيّين والمحظيّين أو أولئك الذين يدفعون عمولات عالية جداً  لبعض الصيارفة أو لبعض مدراء المصارف…!

هذا النهب الممنهج للودائع، أو لما بقيَ منها، هو ما يجري العمل لقوننته، فالودائع تبخّرت والخسارة وقعت على المودعين الذين لا يستطيعون الحصول على أموالهم ولا حتى على جزء منها، والقوننة عبر الـ «هيركات» لا تقدّم ولا تؤخّر من الناحية الاقتصادية والمالية، لأنها لا تضخّ أموالاً جديدة في الاقتصاد، بل فقط لها تأثير قانوني إذ انها تحمي المصارف من الدعاوى القانونية التي قد يرفعها ضدّها عدد كبير من المودعين، وهي دعاوى رابحة بطبيعة الحال. فالمودعون لهم حقوق ولا بدّ أن ينصفهم القضاء، لكن إذا تمّت قوننة الأمر في مجلسي الوزراء والنواب تكون قد توفرت الحماية للمصارف ويصبح القضاء ملزماً بالقوانين الجديدة التي شرّعت هذا الاقتطاع من الودائع!

وهنا تُطرح تلقائياً أسئلة جوهرية هي التالية:

ـ مهما كان حجم هذا الـ «هيركات»، ربما 30 في المئة أو حتى 50 في المئة، هل سيُعطى بعد ذلك المودعون ما بقي من أموالهم بالعملات الأجنبية أم سيخضعون أيضاً لمزاجية هذا وذاك من أصحاب المصارف وجمعيتهم؟

ـ المصارف لم تعد لديها عملات أجنبية، وهي غير قادرة بالتالي على الوفاء بالتزاماتها تجاه المودعين حتى بعد الـ «هيركات»، فهل سيتعرّض المودعون لعملية نصب جديدة، وهل ستُستكمل عملية سرقة أموالهم التي أودَعوها في المصارف بالعملات الأجنبية، بأن يُقال لهم مثلاً: «تستطيعون سحب أموالكم بالليرة»، ولكن بأيّ سعر صرف؟

الأغلب أنّ ما تبقّى من عملات أجنبية هو في تصرّف البنك المركزي، الذي يستخدمها لتأمين حاجات البلاد من محروقات وقمح وأدوية وغير ذلك من مستلزمات طبية، خاصة في هذا الظرف بالذات… 

رغم ذلك نسمع يومياً من السياسيّين، مسؤولين ومعارضين، مزايدات وعنتريات بأنّ الودائع محفوظة ومصونة بالدستور، ثم يقسّمون المودعين إلى فئتينالأولى فئة صغار المودعين الذين يريدون نهبهم بفارق سعر الدولار، والثانية فئة كبار المودعين الذين يريدون الاستيلاء على ودائعهم أو على ما تبقّى منها بقوة المراسيم والقوانين.

إذنأيها السياسيون كيف ستترجمون كلامكم على أرض الواقع؟ كيف تكون حقوق المودعين مصونة ومحفوظة وهي فعلياً قد تبخرت منذ مدة غير قليلة. وقد بدأ هذا التبخّر من سنوات خاصة مع ما سُمّيَ «الهندسات المالية» التي أجريت حلقتها الأولى والأساسية عام 2016 وكلّفت الخزينة العامة أكثر من 8 مليارات دولار، وهناك من يقول إنها مع أجزائها في 2017 و 2018 اللاحقة كلّفت أكثر من 10 مليارات دولار.

لقد دعم مصرف لبنان من خلال تلك الهندسات عدداً من المصارف الخاصة التي كانت استثماراتها الخارجية متعثرة في العراق وتركيا ومصر وغيرهاثم اضطر لاحقاً إلى دعم مصارف أخرى على قاعدة «ستة وستة مكرّر»! والمفارقة الغريبة أنّ هذا الدعم تمّ من الخزينة العامة مجاناً، بينما كان يجب أن تتملّك الدولة مقابل هذا الدعم أو على الأقلّ ترهن لأمرها أسهماً في المصارف التي حصلت على الدعم، كلّ بحسب نسبة استفادته. كذلك كانت تجب محاسبة إدارات هذه المصارف على تهوّرها ومجازفتها باستثمارات غير مضمونة أدّت إلى خسارة أموال المودعين

هذا فضلاً عن الهدر الذي رافق كلّ الحكومات منذ ثلاثين سنة حتى اليوم، مع استثناءات قليلة جداً جداً، حيث تمّ الإنفاق على بعض المشاريع أكثر بكثير مما هي الكلفة الفعلية لهذه المشاريع. وهذا الأمر ينسحب على أكثر من مجال. وهناك أيضاً الهدر الكبير في قطاع الكهرباء الذي استنزف الخزينة العامة وحمّلها أعباء سنوية كبيرة جداً. إضافة إلى التوظيفات العشوائيّة وغير الضرورية في القطاع العاموهنا لا بدّ من الإشارة إلى المزايدات السياسية التي أدّت إلى إقرار عشوائي لسلسلة الرتب والرواتب مع العلم أنه كان بالإمكان معالجة هذا الأمر بشكل يحمي حقوق الموظفين من دون تحميل الخزينة هذه الأعباء الكبيرة.

وفي جانب آخر هناك الكلفة الكبيرة جداً التي تكبّدتها الخزينة العامة على دعم سعر صرف الليرة تجاه العملات الأجنبية، وهو أمر لم يكن له لزوم أكثر من أشهر عدة بعد العام 1993، حيث كانت حركة الاقتصاد الناهضة يومها كفيلة بتحقيق التوازن المطلوب، وكان من اللازم اتباع سياسات إنتاجية، لكن الحكومة في تلك المرحلة ارتكبت أخطاء جسيمة في حق البلد واقتصاده، حيث جرى اعتماد السياسات الريعيّة وتشجيع الاستهلاك والاستيراد، فصارت مداخيل الدولة مرتكزة بشكل أساسي على عائدات الجمارك، وهذه لم تكن تحقق الوفر المطلوب أولاً بسبب التهريب ثم بسبب تدنّي حجم الاستيراد، لأنّ هذا الأمر استنزف ميزان المدفوعات وأوقعه بعجز كبير، في حين كان الأصحّ الحدّ من الاستيراد، خاصة لما يُعتبر من أصناف الكماليات، وكذلك كان يجب الحدّ من الاستعانة بالعمالة الأجنبيةلأنّ كلّ ذلك أدّى إلى خروج العملات الأجنبية من البلد وتسبّب بالعجز الكبير في ميزان المدفوعات، خاصة أنّ أرقام صادراتنا كانت في تراجع مستمرّ، بدلاً من أن نشجع الإنتاج الصناعي والزراعي، حتى نزيد أرقام الصادرات وبالتالي نعزز مداخيلنا من العملات الأجنبية.

وأيضاً هناك باب كبير استنزف الكثير الكثير من الأموال، وهو بند خدمة الدين في الموازنة العامة، والذي كانت أرقامه تزيد سنوياً مع ارتفاع الدين العام الذي وصل إلى الفلك، وهو أمر بدأ صعوده الفعلي في النصف الأول من التسعينيات حين دفع مصرف لبنان، ومن ضمن السياسة الريعية نفسها، على سندات الخزينة فوائد وصلت عام 1995 إلى نحو 45 في المئةومنذ ذلك الوقت دخلنا في حلقة مفرغة ما زلنا ندور فيها حتى اليومنستدين لندفع الفوائد فيزيد الدين وتزيد الفوائد فنضطر للاستدانة أكثر فأكثر حتى بتنا في عجز تامّ عن تسديد الدين كما حصل في آذار الماضي، وهو ما نأمل أن يكون بداية للخروج من الحلقة المفرغة والتفكير بحلول أخرى موجودة تغنينا عن المزيد من الاستدانة

ختاماً نقول ـ خاصة في زمن كورونا ـ إنه كفى كذباً ومراوغة، لقد آن أوان المكاشفة والمصارحة وإعلان الحقائق كلهاوضع الخزينة العامة معروف وغير سريّ. والمطلوب هو الشفافية الكاملة في المعلومات المتعلقة بمصرف لبنان والمصارف الخاصة، لأنّ إيجاد الحلول المناسبة يقتضي أولاً معرفة حجم المشكلة والاعتراف بأنّ هناك مشكلة

وعليه نقترح أن يتمّ وضع خطة لإنقاذ القطاع المصرفي تبدأ بتملك الدولة حجماً من الأسهم يوازي كلفة الهندسات المالية التي استفادت منها المصارف، كما يتملك المودعون حجماً من الأسهم يوازي ما خسروه من ودائعهم، ثمّ يتمّ طرح هذه الأسهم للبيع لاستقطاب مستثمرين جدد سواء محليّين أو أجانب، وطبعاً بإمكان المودعين الاحتفاظ بأسهمهم والمشاركة بموجبها في إدارة المصارف، التي لا بدّ من إيجاد آلية واضحة للدمج في ما بينها، والعمل على تنقية القطاع المصرفي من كلّ الشوائب، واستعادة الثقة به وتمكينه من القيام بدوره الإنتاجي الحقيقي في دورة الاقتاد الوطني.

*أمين عام منبر الوحدة الوطنيّة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى