مفاهيم العقل والدين عند أنطون سعاده ليست كما عند غيره من الفلاسفة
الدين في أصله لا قوميّ ومنافٍ للقومية وتكوين الامة. لأنه إنساني وذو صبغة عالمية. الدين السليم الإلهي الذي يقرّ مبدأ أن يختار الإنسان بملء حريته اتجاهه والمصير الذي يريده لنفسه لا يتعرّض لأي عقيدة تعمل لخير المجتمع وتشريف الحياة فيه. لا يوجد أي تعارض بين أن يكون للإنسان - الفرد دين إلهي ودين قومي اجتماعي أي عقيدة دينية إلهية وعقيدة دنيوية قومية اجتماعية ما دامت الغاية من كل منهما خير الفرد وخير المجتمع. الدِّين نوعان: دين خير الإنسان - المجتمع الذي ينفعه في النمو والرقي والتسامي، ودين شر الإنسان - المجتمع الذي يؤذيه ويعطّل نموّه ويقهقره ويؤدي به الى التخلف والانحلال والتلاشي. لما كان الدين مظهراً ثقافيًاً إنسانياً، فإن خيره أو شره غير متأتٍ من الدين بل متأتٍ من رقيّ أو تخلف الإنسان. وتحميل الدين وزر التخلف هو هروب من تحمّل المسؤولية والقيام بواجب النهوض والتخلص من التخلف. الثقافة الدينية الفضلى هي التي تؤدي الى وحدة مجتمع - الأمة روحيةً وعقليةً ونفسيةً وكياناً روحياً - مادياً أي مدرحياً. التفكير الحاضر دخل في طور الشيخوخة في العالم كله. والبشرية بأسرها تنتظر تفكيراً جديداً تنال به سعادتها وراحتها وحريتها. وهذه البضاعة الجديدة سيخرج أكثرها وأفضلها من سورية بلاد العبقرية والنبوغ
} يوسف المسمار*
قرأت تعليقات عدة على مقال كتبته بعنوان: «ليس كل كلامٍ مقبول حتى وإن كان كلام فلاسفة»، وبعضها يدعوني لقراءة إبن رشد، وبحسب صاحب الدعوة فإني استندت إلى «مقولة مجتزأة من مجمل أفكاره في مبحث العقل»، وبعضها أسهب في شرح أهميّة فكر إبن رشد..
بداية، أؤكد أهمية تبادل الآراء ووجهات النظر والاجتهاد في التصحيح والتصويب بهدف الوصول الى الرؤية الأوضح والأنفع، ولكن، أحب أن أوضح أن مقالي في الحقيقة لم يكن مقالاً عن العقل ومفهومه وأهميته في الحياة، ولا دراسة عن مفهوم العقلية لشعب من الشعوب أو أمة من الأمم. والقصد لم يكن النيل من هيبة الفيلسوف ابن رشد وتسفيه مقولته في العقل وقيمته كفيلسوف، وانما القصد كان التوضيح وتعيين وجهة الدين وتجنّب الإطلاق والتعميم. والذين يخلطون بين مفهوم العقل ومفهوم العقلية فاتهم أن العقل شيء والعقلية شيء آخر. ولست في مجال وضع دراسة عن العقل أو عن العقلية وإن كان المفهومان متلازمين، بل إن الرد أو المقال الذي كتبته لم يكن عن مفهوم العقل بل كان عن مفهوم الدين الذي يمكن أن يعبّر عن اتجاهين في الحياة الاجتماعية الإنسانية بعد التوضيح والانطلاق من الوضوح الذي يساعدنا على فهم الأمور والأشياء التي تساعدنا في حياتنا وتخرجنا من حالة الفوضى والبلبلة التي تعيشها أمتنا. ولذلك، ميّزت بين مفهومين بعد تعريف وتحديد نوعَيْ الدين اللذين هما: دين خير الإنسان – المجتمع الذي ينفعه في النمو والرقي والتسامي، ودين شر الإنسان – المجتمع الذي يؤذيه ويعطّل نموّه ويقهقره ويؤدي به الى التخلف والانحلال والتلاشي.
الثقافة تتبع المجتمع في الرقي والتخلف
وبناء على ذلك، نرى أن للإنسان– المجتمع النامي الراقي له ثقافته، وللإنسان – المجتمع المعطّل نموه له ثقافته المتخلّفة. وبما أن الدين دين الإنسان ولا وجود لدين إلا للإنسان، فإن الدين تابع والإنسان متبوع. فاذا كان الإنسان – المجتمع نامياً متطوراً راقياً، كان دينه على مثاله نامياً متطوراً راقياً. أما اذا كان الإنسان – المجتمع متخلفاً متقهقراً مغموراً بالخرافات، فان دينه حتماً هو دين تخلف وتقهقر وخرافة.
في نموّ الإنسان – المجتمع ونضوجه خير، وفي تخلف الإنسان – المجتمع وتقهقره شر. ولما كان الدين مظهراً ثقافيًاً إنسانياً، فإن خيره أو شره غير متأتٍ من الدين بل متأتٍ من رقيّ أو تخلف الإنسان. وتحميل الدين وزر التخلف هو هروب من تحمّل المسؤولية والقيام بواجب النهوض والتخلص من التخلف. فإذا كان الإنسان ذا روحية خيّرة، وعقلية سليمة، ونفسية جميلة، وعقل واعٍ يميّز بين الحق الذي ينفعه والباطل الذي يضره، وبين الخير الذي يريحه والشر الذي يقلقه فلا يمكن لثقافة دينية شريرة أن تضلله وتعميه عن صلاحه وخيره.
المسألة المهمة هي مسألة ثقافية والدين ثقافة. والثقافة نوعان: ثقافة تنوير وتعليم وتربية وتأهيل تنفع، وثقافة تعمية وتجهيل وطقوس وترسيخ أعراف وعادات وتقاليد تخدير وتعطيل وبثّ خرافات وأوهام تُضل وتؤذي.
أما الثقافة التي تنفع فهي ثقافة الإنسان – المجتمع التي تتسع الى رحاب قوميّة مجتمع الأمة، أو بتعبير آخر التي تركّز على ترسيخ الثقافة القومية – الاجتماعية المعمّمة التنوير على مجموع أبناء المجتمع في جيلهم الحاضر الممهّد طريق التنوير أمام الأجيال الآتية، والى جانب ذلك ثقافة نهضة الأمة الإنسانية المندفعة بثقافتها الإنسانيّة الى الأرقى والساعية كما يقول المعلم انطون سعاده في كتابه (الصراع الفكري في الأدب السوري) الى «طلب الحقيقة الكبرى لحياة أجود، في عالم أجمل، وقيم أعلى»، حيث يتحقق بهذا السعي إيجاد الإنسان – العالمي المركّب من تفاعل نهضات الأمم الراقية الحضارية الإنسانية.
فالثقافة الدينية التي تساعد على تنوير الفرد الإنساني ذكراً كان أو أنثى وتوعيته ليعي أن وجوده ما كان بالانعزال بل بالاجتماع في المجتمع، وأن شخصيته الفردية لا تتحقق خارج المجتمع بل في المجتمع، وأن بقاءه ومصيره حتى الفردي لن يكون خارج المجتمع بل في المجتمع الباقي بقاء الأجيال. وأن الفرد الذي هو بحد ذاته مجرد إمكانية اجتماعية هو في الحقيقة إمكانيّة اجتماعيّة إنسانيّة فاعلة في المجتمع وغير فاعلة بل متلاشية خارج المجتمع.
وعلى أساس هذا الوعي يدرك الإنسان – الفرد أنه خلية حيّة في الإنسان – المجتمع وليس خارج الإنسان – المجتمع. وكمال الإنسان – المجتمع وتمامه هو إنسان – مجتمع الأمة وليس إنسان – مجموع أفراد وفئات. وإن الثقافة الدينية الفضلى هي التي تؤدي الى وحدة مجتمع – الأمة روحيةً وعقليةً ونفسيةً وكياناً روحياً – مادياً أي مدرحياً.
مفهوم الدين عند أنطون سعاده
وبهذا المعنى يقول أنطون سعاده في كتابه العلمي الاجتماعي: «نشوء الأمم» في الفصل السابع: «إذا مثل الدين وحدة العقيدة في شعب كان من العوامل على تقوية التجانس الداخلي الروحي فيه. وكلما كان الشعب متأخراً في الارتقاء الفكري الفلسفي كلما كان الدين أفعل في السيطرة على العقلية. الحقيقة أن الدين في أصله لا قوميّ ومنافٍ للقومية وتكوين الامة. لأنه إنساني وذو صبغة عالمية».
إن وصف أنطون سعاده للدين بأنه إنساني وذو صبغة عالمية كلام مهم يجب تدبّره بما يستحق. وهذا صحيح بالمطلق لأن التأخر في الارتقاء الفكري الفلسفي في شعب من الشعوب يجعل الشعب بسيطاً ساذجاً ليّناً عاطفياً سريع التأثر بالتأويلات المباشرة والأمور البسيطة التي لا تحتاج الى جهد عقلي لفهمها.
ويضيف سعاده على ذلك بقوله: «ولكن الدين، إلهياً كان أوغير إلهيّ. لم يشذّ عن قواعد الشؤون الإنسانية ولم يخرج على مقتضيات نوع الحياة البشرية وحاجاتها المتباينة او المتقاربة».
ويقول أيضاً في الفصل نفسه: «إن الدين واحد ولكن الأمم متعددة. وفي احتكاك الأمم بالأمم تتمسك كل واحدة بكل عقيدة أو بأية عقيدة».
الى أن يقول «إن الدين من الوجهة العقلية فهو نوع من أنواع الفلسفة في تعليل مظاهر الكون وتقدير نهايته ومصير النفس البشرية».
وبما ان الأمم متعددة وفي احتكاكها فيما بينها تتمسك كل واحدة من هذه الأمم بالعقيدة التي تناسبها، فإن المجتمعات كما قال عنها سعاده: «إن في المجتمعات الإنسانية نزعة الى إكساب العقائد العامة صبغات والواناً وأذواقاً من خصوصيات شخصياتها. فكل مجتمع يجب أن يرى نفسه وشؤونه الخصوصية في معتقداته ومذاهبه».
بحسب سعاده، أرادت «الجامعة الدينية أن تحول دون نشوء الأمم ولكن الأمم عدّلت الدين ليوافق نزعاتها القومية وبهذا المعنى صار الدين ويصير عنصراً من عناصر القومية. وفي الأمم، التي تتعدّد فيها الأديان أو المذاهب تكون القومية الدين الجامع ويعود الدين الى صبغته العامة وعقائده الأساسية المتعلقة بما وراء المادة». لذا، نستخلص من كل ما تقدّم أن عقيدة القومية الاجتماعية في أمتنا هي الدين الجامع لأبناء الأمة، الموحّد للأمة والمنشئ روحها القومية ووجدانها الاجتماعي الواحد. وهذ هو دين خير الأمة وحقها وجمالها. وشرط دين الخير في هذه الحالة ان يكون عنصراً قوميا لا يتضارب مع وحدة الأمة وتكوين روحيتها القومية الاجتماعية الإنسانية.
الوجدان القوميّ الاجتماعيّ أساس الدين المدنيّ
وقد كان العالم الاجتماعي أنطون سعاده واضحاً تمام الوضوح وبليغاً تمام البلاغة في كتابه نشوء الأمم في التعبير عن الدين الخيّر لأمتنا حين قال: «ما دمنا قد بلغنا حد الوجدان القومي الذي هو أبرز الظواهر الاجتماعية العامة العصرية فقد بلغـنا هذا الدين الاجتماعي الخصوصي الذي أعطى الكنعانيون فكرته الأساسية للعالم ونعت في بعض الظروف بالخديعة الكنعانية أو الاثم الكنعاني».
وبهذا يسهل علينا فهم حقيقة القول: «إن العالم شهد أديانا تهبط من السماء الى الأرض أما اليوم فيشهد ديناً جديداً يصعد من الأرض الى السماء»، ويتم الوضوح التام بين معنى الدين الالهي والدين القومي الاجتماعي الإنساني وعدم التضارب بين الدين الالهي الذي هو: «من الوجهة العقلية نوع من أنواع الفلسفة في تعليل مظاهر الكون وتقدير نهايته ومصير النفس البشرية» وبين الدين القومي الاجتماعي الإنساني الذي يعني كما عبر عنه سعاده في كتابه نشوء الأمم: «يقظة الأمة وتنبّهها لوحدة حياتها ولشخصيتها ومميزاتها ولوحدة مصيرها».
لا يوجد تضارب بين الدين الإلهيّ والمدنيّ
ويظهر الخيط الفاصل الواصل بين الدين الإلهي والدين القومي الاجتماعي، ويظهر أيضاً بوضوح جلي اتجاه الدين الإلهي واتجاه الدين القومي كما تظهر وجهة التكامل والهدف بين الإثنين الذي هو تشريف الحياة الإنسانية في توطيد قواعد التحابب والتراحم والتآخي.
وفوق ذلك يظهر بوضوح التناغم والتكامل بين مفهوم الدين الإلهي السليم ومفهوم الدين القومي الاجتماعي الصحيح في النظرة الى الحياة والكون والفن التي عبّر عنها سعاده بقوله:
«العقيدة القومية الاجتماعية، لم تتعرّض للدين وعقائده وللعقائد الدينية، التي غرضها خلود النفس بعد ارتحالها من هذه الدنيا في مقامين مختلفين: مقام النعيم ومقام الجحيم، فمن أراد النعيم ابتدأ ممارسة الإيمان الذي يعتقد أنه يوصله إليه وهو بعد في هذه الدنيا فيهيئ بهذه الطريقة خلوده في النعيم، ومن أراد الجحيم ابتدأ يمارس المعاصي والكفر، فلا المؤمنون يذهبون إلى الجحيم بكفر الكافرين، ولا الكافرون يذهبون الى النعيم بإيمان المؤمنين، وأما الذين لم يؤمنوا ولم يكفروا، فالبعض يقولون إنهم يذهبون الى الجحيم، والبعض يقولون إن حساب الله يقرّر لكل واحد منهم حسب أعماله إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، وما دام الحساب بيد الله، فلنخفف قليلاً من غلوائنا فلعل الله يريد أمراً غير ما يريد عباده.
والدين نفسه إذ يجعل قاعدة الحساب يوم الحشر أو يوم الدينونة، هو نفسه يقرّ هذا المبدأ، مبدأ أن يختار الإنسان بملء حريته اتجاهه والمصير الذي يريده لنفسه. ومن هذه الوجهة نرى أن لنا نظرة خاصة ليس فقط في الدين من حيث هو سياسيّ، من حيث هو مؤسسات، وليس فقط في هذه الناحية بل في الدين أيضاً من حيث هو اتجاه دينيّ ونظرة الى الحياة والكون والفن».
والدين السليم الإلهي الذي يقرّ مبدأ أن يختار الإنسان بملء حريته اتجاهه والمصير الذي يريده لنفسه لا يتعرّض لأي عقيدة تعمل لخير المجتمع وتشريف الحياة فيه.
نصل الآن الى انه لا يوجد أي تعارض بين أن يكون للإنسان – الفرد دين إلهي ودين قومي اجتماعي أي عقيدة دينية إلهية وعقيدة دنيوية قومية اجتماعية ما دامت الغاية من كل منهما خير الفرد وخير المجتمع. دين الهي يولّد في نفسه الطمأنينة والراحة بعد رحيله عن عالم الوجود في رحاب الهٍ قدير محبّ رحيم عادل يؤمن به وبقدرته ومحبته ورحمته وعدله، ودين قومي اجتماعي يحضنه في هذا الوجود في مجتمع هو الرحم الذي ولد منه والحضن الذي تتوفر فيه وتتحقق كل آماله وأمانيه في الحياة، والمآل الذي يحفظ مآثره وإنجازاته الدنيوية، والذكرى الطيبة التي تخلد في الوجود بخلود المجتمع.
نهج المدرسة القوميّة الاجتماعيّة الوضوح
نحن في نهج مدرستنا العقلية نقدّس الوضوح اذا كان هناك من تقديس. والتقديس ليس عيباً، لأنه يعني الدائم على مدى الأيام والسنين. ولأن الوضوح يعني الجلاء الذي يهدي الى معرفة الحقيقة التي لا تقوم الا بتوفر شرطيها: الوجود والمعرفة.
والحقيقة في مفهومنا هي قيمة إنسانية كبرى دائمة لنا ومقدسة بديمومتها. فكل وجود ليس واضحاً وجلياً لنا ولا معرفة لنا به، لا نعتبره حقيقة وإن كان حقيقة لغيرنا من الكائنات الأخرى غير الإنسانية لأن الحقيقة بالنسبة لنا هي قيمة اجتماعية إنسانية اي حقيقة إنسانية.
لا نستطيع أن نجزم بالاعتراف بحقيقة شيء الا اذا كان موجوداً في الأصل وتمّت معرفتتنا له، فأعطيناه قيمة إنسانية بمعرفتنا له وهذا يتفق مع قول سعاده:
«في العقائد التي تمتّ إلى الإنسان الحر بصلة لا يمكن الاستناد إلى أي قول استبداديّ مطلق لتقرير حقيقة إنسانية لها علاقة بالإنسان المجتمع. فلا بد لقيام الحقيقة من شرطين أساسيين: الأول الوجود بذاته أي أن يكون الشيء موجوداً. والثاني أن تقوم المعرفة لهذا الوجود. والمعرفة هي التي تعطي الوجود قيمة لا يمكن أن تكون له بدونها».
أسباب نهوض وتخلّف المجتمعات
عندما نصل الى هذا المستوى العالي من الوضوح والجلاء يسهل علينا فهم وإدراك كيف تنهض الأمم وكيف تتخلّف. تنهض بيقظتها ووعيها فتختار كل ما يناسبها وينفعها بالمعرفة، وتتخلف بخمولها وتخاذلها وتحسب بجهالتها كل ما يضرّها نافعاً ومفيداً. والشعوب الأوروبية التي نهضت لم تنهض لا بفلسفة ابن رشد وإن استنارت ببعض أقواله ولا بفلسفات غيره، بل نهضت باستعدادها وإمكانياتها ومؤهلاتها وجهادها. وفي مقال للمعلم سعاده عنوانه «حق الصراع هو حق التقدم» قال فيه:
«إن الأمم التي هي اليوم أمم قوية كبيرة لم تكن كذلك من أول وجودها بل صارت بجهادها وتغلبها على الصعوبات والظروف المؤاتية والفرص السانحة، وبسعادة الحظ أحياناً، وبالحروب الاستعمارية وبالثورة الصناعية والاقتصاد القومي فهل يجب أن يقف التطور عن فعله وأن يجمد العالم عند الحد الذي تريده الأمم والدول العظمى؟ وهل يجب أن تحرم الأمم الثقافية التي كانت عظيمة في الماضي كالأمة السورية من العودة الى عظمتها من أجل المحافظة على السلام الذي ينعم بخيراته غيرها وتشقى بحرمانها هي من الخيرات التي هي حقها وجزاء انتصارها؟».
وبناء على ما تقدم، وبالرغم من ان سعاده وضع فلسفة عملية وليس فلسفة تأملية لم يصل الى وضع مثلها أي فيلسوف آخر في التاريخ من الكمال والتمام والشمول فقد قال في جلسة 14 آب سنة 1948: «إن الذين حولنا يقولون انه ليس في الحزب من شخص مفكر عامل سوى الزعيم. وإنه في حال غياب الزعيم تنشلّ حركة الحزب. إن هذه الحالة لا تعطي الحزب القوة والثقة الجدير بهما. إن الزعيم لا يريد أن يرى نفسه المفكر الوحيد في الحزب، وأن يقال إن الحزب لا يساوي شيئاً بدونه».
فلسفة أنطون سعاده فلسفة عملية صراعية
وقال أيضاً: «لا أريد لكتبي أن توضع على رفوف المكتبات»، بل أسس فلسفة حياة جديدة سورية قومية اجتماعية وصفتُ حقيقتها في مقال نشر تحت عنوان: «فلسفة الحياة» في 5 أيلول سنة 2001 أنها: فلسفة فيلسوف، ونظرة شاملة، وتلامذة هم جنود تحقيقها على الشكل التالي:
«فيلسوف نابغة عبقري تفلّت من حدود الزمان والمكان فوصل الماضي الأصيل الرائع بالحاضر النهضوي الأروع فكان فيلسوفاً وقائداً وقدوة للمستقبل».
«ونظرة شاملة الى الحياة والكون والفن، تناولت المسائل الكبرى في الوجود بتعاليم فلسفية راقية منبثقة من نفسية خيّرة جميلة، آفاقها آفاق العظمة، اشتملت على حقيقة أساسية صالحة لإنشاء عالمٍ جديدٍ من الفكر والشعور، فكان هذا العالم فوق العوالم الماضية، ودرجة لا يمكن أن يكون ويقوم بدونها أي عالم تطوري أجد آخر الا على أساسها».
«أما تلامذتها الجنود فهم الذين فعل فيهم الحافز الروحي المستمد من فلسفة الحياة الجديدة هذه، وأدركوا المثال الأعلى الذي تشتمل عليه هذه النظرة الجديدة، فكانوا أبناء وبنات الحياة الجديدة، وصانعي الحاضر الجيّد والمستقبل الأجود، وكانوا الكائن الفلسفي الحيّ المؤهل لتحقيق بعث نهضة الأمة، وحمل رسالة الهدى الى الأمم والشعوب».
مصدر فلسفة سعاده خطط النفسية السورية
إن هذه النظرة لم تشذ أبداً عن خطط النفسية السورية الحضارية الراقية، ولا رسالاتها السابقة الدينية الإلهية الماورائيّة والوجودية الدنيوية التمدنية بل أوجدت نهضة تستمد روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي غير متنكرة لأي حق وخير وجمال اشتملت عليه تلك الرسالات فجعلت من الرسالتين الدينيتين المسيحية القائمة على المحبة والمحمدية القائمة على الرحمة ديناً واحداً برسالتين تدعوان الى تمجيد إلهٍ واحد محبٍ رحيمٍ جعل الناس أمماً وشعوباً ليتعارفوا ويتراحموا ويتبادلوا المحبة بينهم، كما يتآخى أبناء كل أمة فيما بينهم تآخياً قومياً اجتماعياً هو الأساس المتين الذي يبنى عليه التعارف والعلاقات الإنسانية بين جميع امم الإنسانية على كوكب الأرض.
فاذا قصّر رجال الدين في فهم أغراض الدين وخلطوا بين « قواعد الشؤون الإنسانية ومقتضيات نوع الحياة البشرية وحاجاتها المتباينة أو المتقاربة التي لم يشذ عنها وبين تعليل مظاهر الكون وتقدير نهايته ومصير النفس البشرية» فإن هذه الفلسفة الكلية الشاملة لا تحكم على الرسالات الدينية التي قامت على المحبة والرحمة بالبطلان المطلق ولو قصّر وأخفق المتدينون المؤمنون بهذه الرسالات في فهمها والعمل بها، لأن قولها بالإخاء القومي الاجتماعي الجامع والموحد للمحبة والرحمة وصراعها في سبيل الإخاء القومي الاجتماعي لا ولن يرضى بذلك. وكم كان أديبنا الكبير جبران خليل جبران مصيباً عندما قال: «ويل أمة كثرت فيها الطوائف وقلّ فيها الدين».
واضح وصحيح أن سعاده قال: «إن العقل في الإنسان هو نفسه الشرع الأعلى والشرع الأساسي، هو موهبة الإنسان العليا. هو التمييز في الحياة. فإذا وضعت قواعد تُبطل التمييز والإدراك، تُبطل العقل، فقد تلاشت ميزة الإنسان الأساسية وبطل أن يكون الإنسان إنساناً وانحط الى درجة العجماوات المُسيَّرة بلا عقل ولا وعيّ».
ولكن الإنسان الذي عناه سعاده هو الإنسان – المجتمع – الأمة، والأمة لها تعريف وهوية، والعقل البشري ليس عقلاً مطلقاً كما عند ابن رشد وغيره من فلاسفة العقل، بل العقل البشري في نظرة أنطون سعاده المادية الروحية القومية الاجتماعية هو عقل مركّب من عقول مجتمعات الأمم. والعقلية البشرية هي أيضاً عقلية مركّبة من عقليات الأمم.
مفهوم العقل عند سعاده عقل إنسان – مجتمع
عن العقل البشري الذي هو البشرية، كتب سعاده في مجلة المجلة في سان باولو في البرازيل في نيسان سنة 1925 تحت عنوان: «العقل البشري هو البشرية» وفيه قال: «ان الأمم والشعوب متى كانت منفردة، أي معتزلة الواحدة منها عن الأخرى، لا يمكن أن تتألف منها وحدة تُسمّى «البشرية» أو «الإنسانية» على الإطلاق، فالإنسانية وتطورها باعتبار انها تركيب كامل لا يتم الا اذا كانت اجزاؤها أو الأمم التي تكوّنها مترابطة ترابطاً تاماً بتلك الواسطة الاساسية التي تُسمى العقل البشري. فالعقل الإنساني هو الإنسانية كلها متى كانت أقسامه على اتصال بعضها ببعض بما يطلق عليه اسم افكار او خواطر تسير بين الأمم كلها. فاذا لم يكن ذلك، بطل ان يكون هناك إنسانية بمعناها العصري، واقتصرت لفظة الإنسانية على التعبير عن الإنسان تمييزاً له عن الحيوان.
ولا يتسنى لأجزاء العقل البشري ان تكون على اتصال بعضها ببعض الا اذا توفرت لها وسائل التفاهم التي تحمل الى العقل السوري أو العقل المصري فكر العقل الانكليزي او الالماني مثلاً.
لا نظنّ أنه يوجد أمة ترضى اعتزال العالم لو خُيِّرت، أو تتمكن من ذلك إذا عقدت النيّة عليه.
بناء عليه، كان واجب كل أمة أن تُسهّل وسائل التفاهم بينها وبين الأمم الأخرى الغريبة عنها، وبناء على هذه النظرية كان واجب الأمم الناطقة بالضاد أن لا تُقصّر في التفاهم مع الأمم الأخرى».
هذا هو مفهوم العقل عند سعاده. عقل قومي اجتماعي معيّن بكل مجتمع وليس عقلاً مبهماً مطلقاً غير معيّن بمجتمع معيّن. المجتمعات القومية متعددة والعقول تتبع مجتمعاتها. فاذا توحدت العقلية في مجتمع من المجتمعات كان العقل القومي الاجتماعي عنصراً أساسيا في وحدة المجتمع.
المجتمعات متعددة والثقافة تتبع مجتمعاتها فاذا توحدت الثقافة والدين ثقافة صار الدين عنصراً مهماً في وحدة المجتمع. ويحصل عكس ذلك عندما تتضارب العقليات وتتعادى الثقافات الدينية ويؤدي التضارب والعداوات الى تخلف المجتمع والتفتت والتقهقر. وبحصول هذا التضارب وهذا التنافر، لا ينفع المجتمع، لا مفهوم العقل عند ابن رشد ولا مقولات العقل عند غيره، ولا مفاهيم وخزعبلات من يدّعي مراءاةً ونفاقاً الايمان برسالة المسيح ورسالة محمد اللتين وحدت بينهما رسالة الإخاء القومي الاجتماعي وجعلت منهما دين الحياة السورية الجديدة التي تمجّد الله المحب الرحيم الذي لا يرضى لأبناء أمتنا الا حياة الحق والخير والجمال والتقدم والرقي والتسامي.
المفهوم السوري القومي الاجتماعي
هذا هو المفهوم السوري القومي الاجتماعي الجديد للحياة الانسانية الراقية، بحسب النظرة الجديدة الكلية الشاملة للحياة والكون الفن التي أطلقها أنطون سعاده بعد أن أدرك بعبقريته ونبوغه أن تفكير العالم الحالي المتآكل بجزئيّة الرؤى المادية وضيقها الخانق، وجزئية الرؤى الروحية وتخميناتها الغارقة في الأوهام، قد دخل هذا التفكير بجزءيه طور الشيخوخة والهرم وأشرف على الموت السريري بإغراقه في حروبٍ مميتة بين مفاهيم مادية خانقة ومفاهيم روحية جامحة ستؤدي بالعالم حتماً الى التقهقر الأبدي والهلاك، منطلقاً من قاعدة الحياة السورية الحضارية الثقافية التمدنيّة التاريخية، جاعلاً منها الأساس المتين لتأسيس مدرسة الحياة السورية القومية الاجتماعية بمبادئ محيية منعشة مقوّية يمكنها أن تجدّد شباب الإنسانية بشق طريق حياة جديدة قال عنها في محاضرة له في الأرجنتين في أيار 1940:
«إننا نشقّ في الحياة طريقاً جديداً نختاره نحن لأنفسنا، ونعتمد عليه في تفكيرنا الخاص، وسوف يكون هذا الطريق من جملة الإنتاج الذي يأخذه الناس عنا. إن التفكير الحاضر دخل في طور الشيخوخة في العالم كله. والبشرية بأسرها تنتظر تفكيراً جديداً تنال به سعادتها وراحتها وحريتها. وهذه البضاعة الجديدة سيخرج أكثرها وأفضلها من سورية بلاد العبقرية والنبوغ».
فتتصحح بهذا التفكير الجديد ليس مقولات العقل والدين السائدة المألوفة وحسب، بل جميع مفاهيم الحياة في المعرفة والحكمة والفلسفة والعلم والاقتصاد والسياسة والقانون والإدارة والفن وسائر حقول الإنتاج والإبداع صناعة وزراعة وفكراً وسلوكاً وعطاء ليس له حدود.
*كاتب وشاعر قومي مقيم في البرازيل.