نقاط على الحروف

الحرب الناعمة بين أميركا والصين ستزداد نعومة

 ناصر قنديل

خلال عام ما قبل كورونا كانت العلاقة بين الصين وأميركا قد تحوّلت إلى القضية الأولى على الساحة الدولية، رغم تقدّم المواجهة الإيرانية الأميركية إلى الواجهة، فما أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن الصين كعدو مرات عديدة، وما أعلنه عن نيات تقليم أظافر الصين اقتصادياً، وربطه مستقبل خطته للنهوض بالاقتصاد الأميركيّ بنتائج المواجهة مع الصين والسعي لترويضها وتقييدها، كلها كانت إشارات كافية لاعتبار المواجهة مع الصين المحرّك الحاكم للسياسات الأميركية، والنظر لمصادر القوة السياسية والعسكرية لروسيا، وللحضور المزعج والمربك الذي تمثله إيران، بصفتها عناصر ارتكاز يمكن للصين الاعتماد عليها في تثبيت خطها الصاعد اقتصادياً على المستوى العالمي.

شكلت أزمة كورونا ساحة من ساحات الاشتباك الحاسمة بين بكين وواشنطن، على مستويات عدة، ففي البدايات كانت فرصة واشنطن للتنمّر على بكين، والتشفي بتفشّي الفيروس، واعتباره علامة من علامات التخلف الصيني، الذي قام على تمويل الإنتاجات العملاقة وأهمل مسؤوليات الدولة في قطاعات البيئة والصحة، كما قالت كل التعليقات الأميركية. وفي مرحلة ثانية عندما بدأ الفيروس يتفشى أوروبياً ولاحقاً أميركياً، انقلب السحر على الساحر، فظهر الغرب كله مكشوفاً بلا نظام صحيّ وبلا تجهيزات وبلا استعدادات، وظهرت شركات الأدوية والمختبرات كمجرد مضاربين في البورصة، فيما كانت الصين تسلك طريق التعافي، وتتقدم بنموذج السيطرة على الفيروس الذي لا يزال يهيمن على الحياة الأوروبية والأميركية، فسُجّل لها عالمياً ربح الجولة الأولى من الحرب الناعمة التي أطلقها كورونا بالضربة القاضية.

في الجولة الثانية حاول الأميركيون ومعهم بريطانيا وضع الصين في وضع المشتبه به كمسؤول عن توريط البشرية بالوباء، بتهمة عدم تقديم الإنذار المبكر، وعندما لم تستجب منظمة الصحة العالمية لطلبات أميركية باتهام الصين فتح الرئيس الأميركي النار على المنظمة، وكاد ترامب يصنفها منظمة إرهابية، فيما كانت مواجهة من نوع آخر تدور على جبهتين، الأولى جبهة تقديم الدعم للدول الأوروبية، التي خسرتها أميركا أمام الصين، والثانية جبهة توريد المعدات والتجهيزات، التي اضطر الأميركيون للانحناء فيها أمام حاجتهم للاستيراد من الصين في ظل النقص الهائل الذي عانت منه مؤسساتهم الطبية، وربح الصينيون الجولة الثانية بالنقاط.

تبدأ الجولة الثالثة تحت عنواني، سباق تصنيع اللقاح والأدوية، والقدرة على التأقلم وفتح الباب لإطلاق الدورة الاقتصادية، حيث يجهد الطرفان لإثبات التفوق في المجالين، وتبدو واشنطن منهكة القوى تقف أمام استحقاقات تبث القلق في أوساط المعنيين الأميركيين كإعلان ترامب عزمه إطلاق الحياة الاقتصادية مطلع الشهر المقبل، فيما الأرقام المرعبة تتوالى حول الإصابات والوفيات والنقص المتواصل في تلبية الاحتياجات، بينما تبدو الصين تسير بخطى ثابتة في خطتها على المسارين، فتبدأ خطوات تدريجية على طريق استعادة الحياة الطبيعية خلال شهور، وتعلن تطوير لقاحات وبدء الاختبارات حولها.

ما فعله كورونا ليس تغيير الاتجاه في احتساب عناصر التفوق والتقدم عالمياً، بل كشف المستور عن مفهوم الدولة العميقة ومدى تماسك بناها وصلابتها وحجم قدرتها على تلقي الضربات، وحجم استثمارها على البنى اللازمة للتعامل مع المفاجآت، ودرجة تماسك مؤسساتها وانسجامها في تلبية ما تستدعيه الكوارث من جهوزيّة، لهذا يصعب أن تنجح البروباغندا الأميركية في محو نتائج الوقائع الصينية، فيما أميركا تدخل هذه الجولة بلا أنياب، وتحتاج أن تخوضها بنعومة أكثر، تلبية للحاجة المصلحية التي لا تقاوم، فسوق الدواء العالمي بنسبة 90% هو صيني لمن لا يعلمون، وبعد تراجع أسعار النفط ملأت الصين مخزونها لسنة مقبلة واشترت بأسعار اليوم ما ستحتاجه لملء مخزوناتها مرة أخرى.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى