الوطن

«الثورة» تلتحق بالطائفيّة…
في لبنان فقط!

} د.وفيق إبراهيم

مشهد غريب نقلته إحدى قنوات الإثارة التلفزيونية عن مواطن يتظاهر ضد الجوع مطالباً بإعادة سعد الحريري الى رئاسة الحكومة، شاتماً حسان دياب ومَن «أتى به».

وعندما يتكلم متظاهر آخر نراه ينطق بسيل شعارات من صناعة «الزمن الجميل» عن العلاقة بين استغلال الطائفية والاحتكار والنظام الطائفيّ وهذا الجوع المتفشي.

فيما تصمت مراكز قيادات الحراك في بيروت كعادتها وذلك في محاولة لإظهار بأن موجات الغضب الشعبي في المناطق المتنوّعة ينضوي في إطار قيادتها الرشيدة.

هناك اذاً عود على بدء بحراك فيه متذمّرون ينتفضون في وجه تدهور وطني مريع، ويحتوي ايضاً على اختراقات أكثر اتساعاً تحاول فيه بعض قوى النظام الطائفي قيادة الحراك وترويضه لمصالحها، وذلك في إطار لعبة الصراع التقليدي بين القوى المتنافسة داخل النظام السياسي الطائفي نفسه.

أما الضحية فهم اللبنانيون من ذوي المداخيل المتوسطة والمتدنية وقسم من الميسورين الذين أصبحوا مجرّدين من أموالهم بفعل الحجر المصرفي لها بمعونة مصرف لبنان المركزي، أي الإدارة التي تمثل سطو الطبقة السياسية الطائفية على لبنان السياسي والمصارف والناس والهواء والماء.

هذه «الثورة المزعومة» تشارك اذاً الى جانب النظام الطائفي في تدمير لبنان، وهو ليس مجرد اتهام «مسيّس» بقدر ما يعكس خيبة امل الفئة الاصيلة التي كانت تطمح الى تغيير فعلي في النظام السياسي اللبناني.

لكن هذا السياق الذليل قابل للتغيير مع تبديل جذري في نهج قيادات هذا التحرك. كيف؟

بتحديد دقيق للوضع اللبناني على مستوى بنيته الداخلية، وتغطياته الخارجية، مع تحليل إمكانات الحراك وقدرته على تحقيق تغيير جذري.

إلا أن هناك ضرورة لقراءة عميقة لتداعيات «كورونا» على لبنان والحاجات الفعلية للبنانيين في سبيل الاستمرار وسط اقفال كلي للتفاعلات الاقتصادية.

هناك نقطة إضافية، وهي ضرورة وضع حد نسبي للآمال المعقودة على استثمار الغاز والنفط اللبنانيين، ربطاً بعاملين: تداعيات الكورونا التي ادت الى تقلص اقتصادي عالمي قد يستمر لنصف عقد تقريباً وانهيار اسعار موارد الطاقة الى درجة أصبحت فيها كلفة استخراجها أعلى من أسعار مبيعها.

لذلك يجب على هذا «الحراك» ان يبحث في عتمة لبنانية حالكة عن بصيص ضوء يسمح للبنان الاقتصادي بالاستمرار حائلاً دون انفجاره طائفياً وربما كيانياً.

هذه مهمة خطيرة لأنها تطلب تحليلاً عميقاً يربط بشكل حاسم بين السياسة والاقتصاد.

والسياسة هنا بمعناها الأكبر الخارجي والداخلي.

بداية لن يبذل «الحراكيون» جهداً عظيماً لوضع اليد على المصارف التي توفر موارد للاقتصاد اللبناني.

لكن اكتشافها يرتبط ببعض الخطوات الاستباقية.

اولاً: يجب الاعتراف بأن النظام السياسي الطائفي انكشف بمفاسده وسرقاته، لكن التغطية الطائفية والخارجية لقواه المتنوعة لا تزال حاضرة وبقوة.

فهناك لاعبون اميركيون وسعوديون واتراك وسوريون وإيرانيون وفرنسيون مع بركات دولة الفاتيكان.

من دون نسيان الضغط العسكري الاسرائيلي الذي يعمل بطريقة سلبية معاكسة تخدم فئات داخلية معادية للحلف السوريالإيراني.

ثانياً: لذلك فإن الممكن حالياً هو الاستحصال بقوة الشارع على قوانين من المجلس النيابي باستعادة الأموال المنهوبة وإلغاء الطائفية واسترجاع الأملاك العامة المسطو عليها وتحرير القضاء الخاضع للسياسة والتعليم المتراجع لمصلحة الطوائف وإعادة الاعتبار لمجلس الخدمة المدنية بشكل يصبح فيه الاداة الأساسية لاسترجاع الإدارة الموبوءة بفساد منقطع النظير.

ثالثاً: وهنا الحلقة المحورية التي تشترط تحليلاً للقطاعات التي تستطيع تأمين مداخيل أساسية للبنانيين بالنأي عن أمراض التسييس او الارتهان لمطالب خارجية. فالعنوان هنا هو مصلحة لبنان وشعبه باستثمار الداخل والانفتاح على الاقليم، مع محظور واحد وهو الكيان الإسرائيلي.

رابعاً: اقرار قانون جديد للانتخابات يلغي قانون جبران باسيل الذي لا يفعل كما تفعل قوانين الانتخابات في العالم، لجهة التعبير عن وحدة المواطنين وحاجاتهم. بل يدعم تقسيماً بين المواطنين على مستوى الطائفة والمذهب والجغرافيا وألوان العيون ومعايير الطول والقصر.

بذلك يصبح الحراك عقلانياً يعمل من أجل مصالح الشعب من دون الاكتفاء بخطابات ركيكة وشعارات يحتاج تطبيقها لإسقاط النظام السياسي بشكل كامل وليس بلعبة التحايلات بين «ابطال الثورة» وسعد الحريري وجعجع وجنبلاط ونحاس وواكيم وأبنائهم وأنصارهم، وبقايا الماركسيين والأحزاب التي أصبحت فولوكلوراً تاريخياً لم يعد مستحباً لقلة فاعليته.

بأي حال فإن المصادر المتوقعة للإنتاج في لبنان بعد التأخر المنتظر في استثمار الغاز والنفط تذهب مجدداً نحو إعادة إنعاش قطاع الخدمات بالتخفيف من الدولارات السياسية الخارجية ورفع مستوى التفاعل الاقتصادي الذي يخدم الاقتصاد اللبناني.

فقطاع الخدمات يقوم على الترانزيت الذي يغطي

بالنقل البري مساحة مئات آلاف الكيلومترات من لبنان عبر سورية الى الأردن والخليج والعراق.

وهذا من شأنه افادة الطبقات الغنية صاحبة السلع والطبقة الوسطى مالكة ادوات النقل من الشاحنات والطبقات الفقيرة العاملة في مؤسسات الترانزيت.

وهذا ينعكس بدوره على مستوى تنشيط السياحة والاصطياف بمعدلات عالية في بلد لبناني بإمكانات تنافس اوروبا وتجذب عرب الخليج والعراق وتنشط العمل المصرفي بطريقة سوية ونزيهة.

كما أن بوسع لبنان أصحاب رساميل الجوار العربي لتأسيس شركات إنتاج تلبي حاجات الداخل والخارج المجاور على السواء.

مع تشجيع المغتربين اللبنانيين بإعفاءات ضريبية نوعية على تأسيس مواقع إنتاج لا تتأثر بضغوط السياسيين وأقربائهم، وهذه أسباب تعرف الدولة ولا يجهل الحراك أنها أبعدت المغتربين عن الاستثمار في بلدهم.

كما أن بالإمكان زراعة الأرياف اللبنانية في البقاع وعكار والجنوب بما يؤمن حاجات لبنان الزراعية بكاملها.

ان هذه الأمور التي تؤدي الى وقف الانهيار الاقتصادي تتطلب اولاً اعادة العلاقات الطبيعية مع سورية والتعاون الاقتصادي معها، مع وقف الانصياع للقرار الاميركيالخليجي الذي يمنعه من العلاقات الطبيعية مع سورية وهي المدخل الوحيد للعرب الى لبنان ومدخل بلاد الأرز الى الجوار العربي.

هذا ما يفرض على «الحراك» رفع الصوت عالياً بفتح الحدود السورية أمام علاقات اقتصادية سوية مع لبنان تؤدي فوراً الى تنشيط قطاع الخدمات المنهار بما يعنيه من إعادة إنعاش للطبقة الوسطى اللبنانية.

للفت النظر هنا، فإن على أهل الحراك ان يواصلوا المطالبة بمحاكمة السياسيين الفاسدين وإعادة الأموال التي نهبوها حتى ولو تبين ان تنفيذ هذا الامر مؤجل لحين ولادة توازنات جديدة لصالح القوى الشعبية.

ان إعلان أهل الحراك أنهم ليسوا من أتباع أي فئة من الطبقة السياسية مسألة شديدة الأهمية تدفع به نحو مزيد من القوة الشعبية.

والا فإنه ذاهب الى فشل كبير تتحمل وزره طبقات الشعب التي صدقت يوماً أن حراكاً فيه فئات تعمل لإعادة سعد الحريري بوسعها قيادة دفة التغيير في لبنان التعيس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى