أخيرة

الانتهازيّة موضة العصر…

لواء العريضي

نعيش اليوم في عالمٍ يقطنه حوالي ثمانية مليارات نسمة بعد أن كان عدد سكانه حوالى مليارين فقط منذ قرن. ومع الزيادة السكانية ازدادت سرعة استنزاف الموارد البشرية من ماء وغذاء وسكن وطاقة. فتزايد السكان يجعل الوصول للموارد أصعب مما يدفع الأمم للتبارز في ما بينها للسيطرة على هذه الموارد معتمدةً شتّى الطرق.

ليست الأمم وحدها من تتبارى، فالبشر في الأمة الواحدة كذلك الأمر. مع ازدياد عدد سكان بلدٍ ما يتزايد الطلب على أساسيات الحياة والحاجة الماسّة لزيادة المدخول. فتعلو نسبة البطالة وتصبح غاية العيش تبرّرها أية وسيلة. فمن لم يتمكّن من الحصول على وظيفة عليه انتظار فرصة أخرى وأخرى حتى التوفيق. واغتنام الفرص بالطرق المشروعة أخلاقياً وقانونياً كالتباري والمناقصات أمر متاح وسليم لأنّ الجميع يكون سواسية والنجاح هو سبيل الأفضل. ولكن قلة الفرص وكثرة المتطلبات المعيشية تدفع الناس للذهاب لاعتماد أيّ طريقة لتأمين العيش فتصبح المصلحة الشخصية وما يتعلّق بها من مصلحة العائلة أو العشيرة أو الطائفة المحدّدة هي المحرّك الأساسي لنشاط الفرد. ويصبح التفكير في النفس لمجاراة التقدم والبقاء سيّد الموقف. فالأنانية الفردية تصبح نهجاً تتغذّى من بلاء المجتمع لإشباع نفسٍ ظنّت أن وحدها ستنجو. نطلق على هذا النوع من البشر اسم «الانتهازي»، حيث الانتهازية تكون وسيلة العيش.

والانتهاز في معجم العرب يعني اغتنام الفرص واستغلال جميع الوسائل لتأمين المصالح الشَّخصيَّة. والانتهازي هو من يقتنص الفرص ويستغلّ أية وسيلة للمنفعة الشخصية، مستغلاً أيّ ظرف أو فائدة ممكنة بطريقة غير أخلاقية عادةً، فهو من يطلب مصلحته الخاصة. فالانتهازية باختصار هي وضع المصلحة الشخصية قبل مصالح الآخرين كلما سمحت الظروف.

كم من قصةٍ قد سمعنا عمّن يسعى لإضعاف مديره لينقضّ عليه ويأخذ مكانه، أو بالتسويق لشهاداتٍ مزوّرة أو أعمالٍ مخلّة بالأمن بهدف الربح المادي دون إدراك العواقب. فالانتهازي كمروّج المخدرات، ينتهز أوجاع الناس ومرضها بغية الربح المادي فيطيح بجيلٍ شابٍ ومستقبل وطن.

والانتهازية تتشعّب في أقطار الحياة الإنسانية كافة، ففي «القصة التوراتية» انتهز ابرام عدم معرفة الفرعون بأن ساراي هي زوجته، فاغتنم المال والماشية من تصرّفٍ مبتذل. كما انتهز يعقوب ذهاب أخيه عيسو للصيد ومرض أبيه ليأخذ المباركة الإلهية فأصبح أبناؤه الاثنا عشر أسباط بني «إسرائيل» «المقدسين»، وكذلك الأمر بالملك داوود الذي انتهز ذهاب «أوريا الحثّي» للحرب للدفاع عن مملكته فاختلى بزوجته وأصبحت أم سليمان بعد أن وضع زوجها في الصفوف الأماميّة لتأكيد مصرعه.

وفي الاقتصاد نرى دولاً تضع حياة شعوبٍ أخرى مُستنزِفة تحت رحمتها في إطار الأمن مقابل الغذاء، وتبليها بقروضٍ يستحيل ردّها للسيطرة على قرارها السياسي وسياستها الاقتصادية. كذلك على الصعيد الشخصي داخل المجتمع الواحد، ففي كلّ أزمة تتبلور صفقات عديدة يتبيّن أنها استغلّت فقر الناس لمصلحة شخص أو شركة معيّنة. فانتهاز حاجة الناس في المصاعب يُعتبر من أحقر أساليب الانتهاز.

وفي المجتمع، ذمّ الآخرين والتشهير بهم واستغلال كبوتهم لتشويه سمعتهم بغية إثبات الذات حدثٌ يوميّ بات مألوفاً. كذلك في خيارات العديد من الأشخاص الذين يتصرّفون بأنانية على قاعدة المثل الشعبي «من بعد حماري ما ينبت حشيش» مبرّرين أنّ مصلحتهم بهذا الخيار أو ذاك غير آبهين بالمصلحة العامة.

أمّا في السياسة تعتبر الانتهازية لفظاً حديثاً يُقصد به انتهاز الفُرص العاجلة دون النَّظر إلى الأهداف الآجلة، فيُضحِّي الانتهازيّ بالأهداف العامّة في سبيل المغانم الشَّخصيّة. أما خصائص السياسي الانتهازي فتُلَخّص بأنه إنسان ذكي عادةً ويتمتّع بمرونة كبيرة، لاعب ماهر يتنقل من شخصية الى أخرى، غير مبدئيّ، قراراته تصبّ في منفعته الشخصية، وهو أفضل من يزوّر الحقيقة. يخاطب جماهيره لاعباً على الوتر الحسّاس الذي أوصله للسلطة مستخدماً إيديولوجية اعتيادية تعوّد عليها المستمع، ويضحّي بمصالح الوطن الاستراتيجية في سبيل مصلحته ومصلحة دائرته الصغيرة الخاصة.

فالانتهاز في السياسة أشدّ بليّةً منه في أيّ قطاع آخر لأنه يمسّ عدداً كبيراً من الناس والأمثلة كثيرة. فكم من سياسيٍّ  يدّعي اللا طائفية وهو في خطابه أشدّ الطائفيين. وكم من زعيمٍ يدّعي الاشتراكية وهو متخومٌ من كثرة الأملاك، وكم من شيوعيٍّ يرهقه جمع المال. ناهيك عن وزيرٍ عدّل مبادئه طمعاً بكرسيّ، ونائبٍ حنث وعوده فشرّع قانوناً حرّمه ناخبوه. نرى من يدّعي الديمقراطية وهو مستبدّ، ومن يتكلّم عن التقدمية وهو رجعيّ، ومن يريد محاربة الفساد وهو أكبر الفاسدين. فانتهاز مشاعر الناس يجب أن يُجرَّم في قانون العقوبات. وعلى الصعيد المحلّي كلنا نعلم أيضاً أنّ من انتهز الوجود السوري في لبنان ينتهز القوة الغربية الاقتصادية اليوم. ومن انتهز الاحتلال الإسرائيلي على أرضنا ما زال يراهن عليه الآن. فالانتهاز استراتيجية ناجحة ما دام الرأي العام يدركه ويلتزم الصمت. للأسف، يمكن للقارئ أن يستخلص أنّ هذه الخصائص هي سمات أغلب السياسيين اللبنانيين! ولكن ما الحلّ؟

الحلّ يكمن في تغليب مصلحة الوطن على المصلحة الشخصية، أو على الأقلّ وضع مصلحة نطاق التفاعل الاجتماعي الضيّق المتمثل بالبلدة أو المدينة قبل المصلحة الفردية. الحلّ هو شعورٌ اجتماعي اسمه الوجدان القومي الذي يعرّفه أنطون سعاده بالتالي: «أمّا ظهور شخصيّة الجماعة فأعظم حوادث التطوّر البشري شأناً وأبعدها نتيجةً وأكثرها دقّـة ولطافة، وأشدّها تعقّـداً .إذ أنّ هذه الشخصية مُركّب اجتماعي ــ اقتصادي ــ نفساني، يتطلّب من الفرد أن يُضيف إلى شعوره بشخصيّته، شعوره بشخصيّة جماعته . أُمّـتــه .وأن يُزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مُجتمعه وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسيّة مُتحده الاجتماعي وأن يربط مصالحه بمصالح قومه وأن يشعر مع إبن مُجتمعه ويهتمّ بــه ويَــودّ خــيره، كما يـودّ الخــير لنفسه

إنّ الوجدان القومي أبهى وأصدق صورة للرّقيّ البشريّ داخل المجتمع الواحد. والباقي يكمن في داخلنا، وفي خيارنا ما بين المصلحة الشخصيّة والمصلحة العامة، بين الحق والباطل، بين الخطأ والصحّ والأصحّ.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى