مقالات وآراء

من «الربيع العربي» إلى زمن كورونا: إرهاصات وتداعيات

} د. ميادة ابراهيم رزوق

بعد حرب تشرين التحريرية عام 1973 كان هناك عمل ممنهج من قبل النظام الغربي الامبريالي، وآلته الإعلامية مع الماكينة الإعلامية للرجعية العربية باستدخال فكر الهزيمة كخيار لبعض الأنظمة والنخب السياسية في العالم العربي، وبأنّ العرب غير قادرين على هزيمة جيش الاحتلال الصهيوني حتى لو حققوا بعض الإنجازات التكتيكية، فإنّ الكيان الصهيوني سيستعيد زمام المبادرة من جديد، وكلّ ذلك لتقبل فكرة (دولة إسرائيل)، والتعاون معها وفق شروطها كمنتصر في الماضي والحاضر والمستقبل.

ومهما كانت ردة الفعل من الشعوب العربية «وعي أو لا وعي» فقد أدّى ذلك وفي تلك الآونة إلى مجموعة من الهزائم وأبرزها «اتفاقية كامب ديفيدحصار واحتلال بيروت صيف عام 1982 – اتفاقيتي أوسلو ووادي عربة»، وإضافة لذلك ومن ذات المنبر في أجندة كيّ الوعي العربي في الخطاب العربي الرسمي تبجّحوا بأنّ العرب غير قادرين على التأثير في سياسة الولايات المتحدة الأميركية التي تحكم وتتحكم بالعالم كامبراطورية عظمى، إلا أنّ محور المقاومة في إيران وسورية ولبنان لم يستجب لذلك رغم عدم تبلوره بصيغته الحالية، وحارب على أكثر من جبهة للنهوض بقوى المقاومة لتسهم في صياغة وعي جديد وإنسان جديد يؤمن بأنه قادر على مواجهة التحديات الكبيرة والتفوّق بها، وذلك بشكل تدريجي وتراكمي من خلال الانتصارات المتتالية بدءاً من الانسحاب الإسرائيلي المذلّ من جنوب لبنان عام 2000 إلى الانتصار في حرب تموز على العدوان الصهيوني عام 2006 وكذلك الانتصار في حرب غزة عام 2008 ؛ مما أعاد الاعتبار للوعي العربي واحترامه لذاته، والإيمان بالقدرة على الصمود والبقاء وإلحاق الأذى بالعدو ومنعه من الوصول إلى غاياته عبر استخدام القوة والمزيد من القوة، وهزيمته كمقدّمة للتغيّرات في معادلات الصراع والردع، واصطفافات القوى على مستوى المنطقة وعلى المستوى العالمي.

تزامناً مع ذلك استمرت اللجان بعضوية قادة ومنظري الحروب في الأنظمة الإمبريالية والصهيونية بإعداد دراسات وسيناريوات جديدة تقّوض قوى المقاومة كاستمرار لسياسة الهيمنة على المنطقة وسلب ونهب ثروات الشعوب، ورسا الاختيار على سيناريو ما يسمّى «الربيع العربي» ضمن أجندة الحرب الناعمة والذكية، و»الفوضى الخلاقة» التي أتحفتنا بإطلاق مصطلحها كوندوليزا رايس في حرب تموز 2006 مبشرة بولادة «شرق أوسط جديد» بمقاييس صهيوأميركية تضمن أمن الكيان الصهيوني وخطوة في مسار السيطرة على أنابيب النفط والغاز التي يجب أن تمرّ من المنطقة إلى دول الاتحاد الأوروبي، وأبرز أدوات هذا السيناريو قلب المصطلحات وتشويه الوعي العربي والعالمي من خلال إدخال معانٍ جديدة لمفاهيم الإرهاب والإسلام والمعارضة الوطنية والشهيد وغيرهاوانشاء ترابط وثيق بين الإرهاب والإسلام، والإرهاب والعروبة على مستوى وعي شعوب العالم؛ مما أدّى بالكثير منا إلى الرفض والتنكر للهوية العربية والنفور من الإسلام والمسلمين المتلازمة مع الإرهاب وقطع الرؤوس، وأكل الأكباد، وسبي واغتصاب النساء، وظهرت أحزاب يمينية في دول الاتحاد الأوروبي وخاصة ألمانيا تطالب بإخراج اللاجئين بذات النظرة إلى العرب والإسلام، مع محاولات تدمير الدول الوطنية ومؤسّساتها وثقافتها وحضارتها وشيطنة رموزها وقادتها، ومحو تاريخها إنْ أمكن لتغرق في صراعات طائفية اثنية عرقية قومية تنتهي بتقسيم وتشرذم المنطقة وفق وثيقة كيفونيم الصهيونية عام 1982 ، ومشروع برنارد لويس، وتقرير فينوغراد «الإسرائيلي».

ومرة أخرى تتالت إنجازات وانتصارات قوى محور المقاومة، ولكن هذه المرة بشكل ميداني أوسع من حرب الناقلات البحرية إلى إسقاط درة الصناعة العسكرية الأميركية «الطائرة المسيّرة من نوع درون» إلى استهداف قاعدة «عين الأسد» الأميركية في العراق والتي تفوّقت بهم إيران، إلى أسطورة الصمود اليمني على قوى التحالف الامبريالي الصهيوني الأعرابي برأسها المتقدّم النظام السعودي، وإنجازات الجيش الوطني اليمني مع أنصار الله باستهداف «أرامكو» أهمّ المحميات الاقتصادية النفطية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، ومع استمرار استهداف العمق السعودي بمصافيه ومنشآته النفطية وغيرها بالصواريخ والطائرات المسيّرة، إلى الانتصار المدوّي بزلزلة المجتمع الصهيوني بعملية «أفيفيم» التي قام بها رجال حزب الله في مدينة صلحة الفلسطينية المحتلة عام 1948، والتي تعتبر في الشرعية الدولية «أراضي إسرائيلية»، إلى صواريخ غزة التي أصبحت تطال العمق الصهيوني وتحجز المستوطنين الصهاينة طيلة أيام القصف في الملاجئ دون وجود بنية تحتية (إسرائيلية) مجهّزة لحروب طويلة من هذا النوع، وقبل كل ذلك وخلاله الانتصارات الميدانية التي سطرها ولا يزال الجيش العربي السوري بالتعاون مع قوى المقاومة في إيران ولبنان والحليف الروسي لتحرير الجغرافية السورية من العصابات والتنظيمات الإرهابية التكفيرية الوكيل الأساسي للثلاثي الأميركي والصهيوني والنظام السعودي مع بقية حكومات الرجعية العربية، والنظام التركي بدور رئيسي بحكم الجغرافيا؛ ليؤول ذلك وبنتيجة تلك الإنجازات والانتصارات إلى انكسار الهيبة الأميركية والإسرائيلية والسعودية في المنطقة، دون الخوض في تفاصيل الأزمات الداخلية التي تعتري كلّ من النظام السعودي والكيان الصهيوني، والتي ليس بمنأى عنها النظام التركي وما يعانيه من ضعف بالاقتصاد وارتفاع الأصوات المعارضة لحزب العدالة والتنمية الذي بدأ ينقسم على نفسه.

وصولاً إلى جائحة كورونا التي اجتاحت العالم وسط تطبيق أصعب أنواع الحصار والعقوبات الاقتصادية من قبل الولايات المتحدة الأميركية على كل الدول والقوى المناهضة للسياسة الأميركية، التي أتت لتُسقط الأقنعة وتَكشفَ زيف شعارات حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية التي رفعتها الأنظمة الغربية الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة، وكشفت هشاشة الاتحاد الأوروبي ككتلة واحدة تخلى عن بعضه البعض؛ لنشهد علم الاتحاد الأوروبي يُحرق في غير دولة أوروبية ويُرفع العلم الصيني مكانه، ونشهد منظراً لم نألفه من قبل في انتشار آليات الجيش الروسي العسكرية في بعض الدول الأوروبية ليس كجيش محتلّ، بل كجيش يقدّم الخدمات والمساعدات الطبية لمكافحة وباء كورونا والحدّ من انتشاره في الوقت الذي تسرق وتقرصن الأنظمة النيوليبرالية المتوحشة المعدات والمساعدات الطبية لبعضها البعض، وتقف عاجزة أمام انتشار ذلك الوباء دون أن يميّز قادتها ورؤساءها، وطواقمها العسكرية، فيخرج حاملتي الطائرات الأميركية روزفلت ورونالد ريغان في غرب المحيط الهادئ وبحر اليابان من الخدمة، وبالأنباء ذاتها ايضاً عن حاملة الطائرات الفرنسية شارل ديغول، ويمتدّ أثره إلى الكيان الصهيوني لنراه متخبّطاً في مواجهة الوباء، يمارس كغيره من الأنظمة الأوروبية والأميركية سياسة السرقة والقرصنة للمعدات والمساعدات الطبية كما فعل سابقاً بسرقة وقرصنة الأفكار والاختراعات والعلماء والأغاني والروايات والتراث لبعض الدول العربية.

إذاً في زمن كورونا تُكشف هشاشة الأنظمة الاقتصادية والصحية والاجتماعية للدول الرأسمالية النيوليبرالية، ويتمّ العمل على تقليص التواجد العسكري الأميركي في منطقة الشرق الأوسط في القواعد العسكرية البرية والبحرية، وتسحب العديد من دول الناتو قواتها العسكرية من المنطقة تحت تأثير ضربات المقاومة وجائحة كورونا.

فنحن في زمن سقطت فيه الأقنعة وتكشفت الحقائق وتآكلت الهيبة..

نحن في زمن تُعاد فيه صياغة التحالفات ورسم خرائط استراتيجية جديدة، لتسقط فيه أحلاف وتنشأ أخرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى