أولى

الحكومة اللبنانيّة: 
من المراجعة إلى المبادرة

بشارة مرهج _

 

 

كل حركة أو منظومة أو حكومة لا تراجع أوضاعها وسياساتها وممارساتها بروح نقدية موضوعية، فإنها سرعان ما تصطدم بالحائط وتقع في فخ التقليد والجمود، وتتحوّل إلى هيكل يفتقر إلى الحيوية والإنتاج.

والحكومة اللبنانية التي تألفت وسط أزمة اقتصادية مصيرية يعيشها لبنان لم تأت لتملأ الفراغ الدستوري فحسب، وإنما أتت لتعالج هذه الأزمة المصيرية التي انضمت اليها ازمة كورونا وهي أشد صعوبة من الأولى مما ضاعف من مهمات هذه الحكومة الرامية الى إنقاذ الكيان اللبناني وحماية حياة اللبنانيين بالتعاون مع المجتمع المحلي كما الدولي.

صحيح أن الحكومة ملزمة بالدستور والقوانين والأعراف بما يبطئ الحركة في زمن الطوارئ، الا انها بالمقابل غير ملزمة في هذه المرحلة إلا بمصلحة لبنان التي تقضي بتخطّي الروتين وكل الممارسات التقليدية والطقوس الشكلية التي ليس لها مكان في زمن القرارات الحاسمة.

والحكومة وفقاً لفلسفة وجودها، في هذه المرحلة المترعة بالأخطار، مقيّدة بالبرنامج الإنقاذي الصعب الذي يطرح نفسه ويتمسك به الجمهور. وهذا البرنامج هو مصدر قوة للحكومة اذا استندت إليه في اتخاذ قراراتها الاصلاحية الجريئة سواء في ميادين الكهرباء، أو الادارة، أو المال، أو سواها، خاصة إذا أيقنت أن نقطة البداية تكمن في الضرب بيد حاسمة على كل من اختلس الأموال العامة والخاصة، أو هرّبها، أو هدرها. فهذا هو الاسلوب الناجع الذي يفتتح حقبة التصحيح والإصلاح ويدفع بالجميع الى الانسجام والانضباط في السياق العام. وبالتزامن مع ذلك لا بد من ملء الشواغر في البنك المركزي وتغيير حاكميته التي تجاوزت حد السلطة وتعالت على الحكومة ورفضت التعاون معها بعد أن مضت بعيداً في قراراتها المنفردة خدمة لمصالح الطبقة المالية المصرفية، وكل ذلك على حساب الطبقات الشعبية والمتوسطة.

إن الحكومة بصفتها السلطة الإجرائية العليا في البلاد لم يعد بإمكانها، في هذا الظرف الحساس، التخلي عن صلاحياتها التي يمارس الغير بعضها وأهمها ولا سيما حاكم البنك المركزي الذي يقبض، بحكم الفراغ من جهة والاستمرار من جهة أخرى، على مقاليد السلطة النقدية والمصرفية حيث يفرض القيود والاقتطاعات على المواطنين ويتسبب مع الادارات الفاسدة وأركان النظام السياسي في إفقار الأكثرية الساحقة من الناس وتمكين الأقلية في الوقت نفسه من التحكم والتصرف كما تشاء.

إن نزع هذه الصلاحيّات من يد الحاكم وإيداعها المجلس المركزي باتا أمرين ضاغطين لوقف الفوضى النقدية من جهة ولوقف التآكل في سمعة الحكومة ومكانتها من جهة أخرى. إلى ذلك يبقى أمران لا يستقيم الوضع بدونهما.

اولاً: تعيين نواب الحاكم ومفوض الحكومة لدى مصرف لبنان كي يتمكن المجلس المركزي من الانعقاد والمذاكرة وممارسة دوره بحسب ما نص عليه قانون النقد والتسليف. علماً بأن وجود كل من مدير عام وزارة المالية ووزارة الاقتصاد في المجلس المركزي يسمح بالربط التفاعلي الإيجابي بين السياسة النقدية والسياسة المالية، كما أن وجود مفوض الحكومة يساهماذا أرادبضبط الوضع واطلاع الحكومة على كل شاردة او واردة.

ثانيا: إلزام الحاكم تقديم كل حسابات البنك المركزي للحكومة عبر وزير المال خلال مهلة محددة لا تقبل المراجعة، علماً بأن الحاكم حتى الآن لم يتجاوب مع المطالب المتكررة التي وجهها اليه بهذا الشأن رئيس الحكومة نفسه مما يشكل خللاً بالغاً في بنية الدولة لا يجوز السكوت عنه، مهما كان نفوذ القوى التي تحمي الحاكم، ومهما كان حجم المصالح المصرفية المشتركة التي تعتبر نفسها  أكبر وأقوى من الدولة.

وهنا تبرز أهمية وضرورة متابعة كل القضايا المالية التي توجد ملفاتها لدى القضاء وصولاً الى تقديم المتهمين الى المحاكمة. وإذا كان كثيرون يعتقدون بصعوبة تقديم المتهمين الى المحاكمة نظراً لتعقيدات الوضع اللبناني وتوغّل ذئاب الطائفية في ثناياه فهم يدركون أيضاً أن الحكومة لم تأت لتوزيع الإعانات ومعالجة المرضى فحسب (على أهمية كل ذلك)، وإنما أتت لتعالج القضايا الكبرى التي تصغر أمامها كل تدخلات طائفية أو مراجعات تقليدية، وحيث على كل مَن يروم تعطيل عجلة العدالة أن يتحمّل أمام الملأ مسؤولية الانهيار وإدخال البلد في نفق لا مخرج منه.

وبعد ما جرى في مجلس النواب من إسقاط لمعظم المشاريع المالية الإصلاحية أصبح من مصلحة الحكومة اليوم التوقف لحظة لتقييم الوضع مجدداً والكشف عن مكامن الخلل والتردّد في بنيتها ومواقفها ومبادراتها، وذلك لتصحيح ما يتوجب تصحيحه، والانطلاق مجدداً في تنفيذ البرنامج الإصلاحي الصعب الذي أتت من أجله، مؤكدة في كل خطوة من خطواتها على طمأنة الناس إلى أموالها ومستقبلها بصرف النظر عن تهديدات الذين استباحوا أموال الدولة والشعب والذين ما زالوا يملكون الكثير من الوسائل والأقلام.

*وزير ونائب سابق.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى