مقالات وآراء

«الإمبراطورية التعصبية الانعزالية اللبنانية» قراءة في واقع التعصب السوسيو ـ ايديولوجي في لبنان

} البروفسور كلود عطية*

لا أمل في التغيير، ومن ثم النهوض، إلا في اعتبار «أنّ قضية شخصيتنا ومصالحنا لا يمكن أن تكون خطة أو وسيلة، فهي الأساس الذي نبني عليه كلّ منشآتنا والمرجع لكلّ خططنا» (سعاده). إلا أنّ هذه الشخصية، يجب أن تكون شخصية مجتمعية وليست فردية أنانية وانعزالية تعصبية، فاقدة للمناقب والأخلاق والشعور بالانتماء الى الدولة ومصلحتها العليا..

وهنا نطرح مشكلة «التعصب»، باعتبار أنّ إدراك أية مشكلة ومدى خطورتها، هو الوعي في محاولة إيجاد حلّ لتلك المشكلة، وتُعدّ البداية الأولى لمعرفتها.. فمشكلة التعصب لدى الإنسان، هي مشكلة جوهر وجود الكيان الإنسانيّ السويّ، فإذا ما آمن الفرد بهذا النمط من السلوك في التعامل مع فرد ما بعينه أو مجموعة ما بعينها، فهو يُعدّ اضطراباً في معيار الصحة النفسية أو العقلية.. وهو صراع داخلي يحدث للفرد وينمّ عن اختلال في التوازن.. وبذلك فإننا نسلّم جدلاً بأنّ الفرد المتعصب هو بحكم المريض عقلياً ونفسياً، لما يتميّز به من جمود وتصلب في الرأي.

 في السياق نفسه، إنّ الافكار التعصبية الدينية والحزبية والشخصانية والمناطقية هي من أكثر المنتجات القابلة للانتشار في لبنان، إلا أنها لا يمكن بطبيعة الحال إلا انّ تكون تعبيراً عن حالة نقص في الذات الإنسانية والأخلاقية من جهة، أو عن حاجات وأزمات سياسية وثقافية ومعرفية من جهة أخرى، وبالتالي هي لا تأتي من خارج الفرد أولاً، ولا من خارج المجتمع الذي ينتمي إليه ثانياً، وبالتالي لا ضرورة لفهم هذه الأفكار من خلال تنميطها تحت مسمّيات معينة، بل وجبت دراستها وتحليلها وتقديم صورة علمية واضحة عن تأثيرها على الفرد والمجتمع.

ونشير هنا، الى أنّ حالة التقوقع الشخصي في لبنان وصلت إلى ذروتها رغم الانخراط الأعمى في المجالات الحياتية كافة، حيث نرى مَن يذهب باتجاه تعميق انعزاليّته الحزبية والطائفية، أو أن يكون قرباناً على مذبح هذا السياسي أو ذاك من أمراء الطوائف، المتحوّل الى إله قاتل في الأرض تحت غطاء من المبشّرين بالسماء. والنتيجة الحتمية لهذه التبعية ترسيخ مبدأ الانقسام والتوتر والحقد الاجتماعي وزعزعة الدولة بكلّ مؤسّساتها، وبالتالي خلق حالة من الفوضى القيمية التي تجيز كلّ الارتكابات العنفيّة المهينة اقتصادياً واجتماعياً ومالياً بحق الوطن والمواطن.

لذلك يصبح من الضروري تقديم مقاربة مبنية على العقل العلمي، من هنا انطلقنا من السوسيولوجيا الفهميّة التي كتب عنها «ماكس فيبر» أحد كبار رواد علم الاجتماع بداية القرن الماضي، لفهم ظاهرة التعصّب الأعمى (للأفراد) لأحزاب تدّعي الانفتاح، ولطوائف تدّعي التسامح وعدم التدخل في الشؤون السياسيّة، ولأمراء أحزاب الطوائف التي ما قدّمت للشعب الا الدم والفقر والنزاع حتى الموتوهذا التعصب، لا يولّد إلا التشدّد والتطرف والعنف السياسي الحزبي والطائفي المذهبي، وهو آخذ في التمدّد في الفكر والثقافة وفي كلّ التعبيرات التعصبية بوجه الحالة العلمانيّة والمدنيّة.

يقول سعاده «آن للشباب النزيه أن يتحوّل عن الشعوذة والمشعوذين، وعن الاقتباس والمقتبسين، وعن جميع محاولات الرجعية والرجعيين، وعن المحاكاة الببغائية والتقليد السعداني، وأن يرتفعوا الى مستوى قضايا الحياة ومطالبها العظمى. إنه لا يمكن تحويل النفعيين عن نفعياتهم، والرجعيين عن رجعياتهم، والإقطاعيين عن إقطاعياتهم، ولكن يمكن تحويل محبّي الحقيقة والخير العام والقضايا الصحيحة، نحو الحقيقة والخير العام والقضايا الصحيحة. فعلى هؤلاء أن يدركوا مقدار الشعوذة والتضليل العابثين بهم وبمصير الأمة».

كما وتجدر الإشارة، الى أنّ جماعات التعصب التي وصلت الى درجة العنف والتشدّد والتطرف، قد ولدت في بيئة اجتماعيّة وتربوية انعزالية لم تبصر النور الحقيقي للعلاقات الإنسانيّة والتفاعل الاجتماعيّ، بل على العكس من ذلك فقد تربّت على مفاهيم مختلفة جعلتها أسيرة دائرتها الجغرافية الطائفية والعائليةالعشائرية الضيقة، تمارس فيها طقوسها الشخصية من وجهة نظرها الانغلاقية.. من هنا جاء انخراطها في المجال العام على كلّ المستويات الطائفية والسياسية والحزبية، انعكاساً لما هي عليه في دائرتها المغلقةـ فباتت تتعاطى الشأن العام انطلاقاً من قيمها ومبادئها التعصبية غير المنفتحة على الآخر.

 عليه، جاء التحوّل من السوسيولوجيا الى الايديولوجيا ليطرح إشكالية تخلّف الجماعات الانعزالية وتأثيرها على تخلف المجتمع. فالإنسان المنعزل المتقوقع سوسيولوجيا، لن يوظف عقيدته وفلسفته وفكره إلا في الإطار الذي يزيد من تخلّف المجتمع وتراجعه وتشويه صورته. فالموروث العقائدي على سبيل المثال المتمثل بالانتماء الى الأحزاب العقائدية، يتمّ التعامل معه انطلاقاً من الموروث الاجتماعي، حيث يفهم الحزب من خلال قيم الشخص الذاتية الانعزالية التي تختلف عن القيم الحزبية والمبادئ والمفاهيم والأهداف التي تأسّس على أساسها الحزب. هذه الممارسة أفقدت بعض الأحزاب دورها في نهضة المجتمع وتطوّره وتحوّلت الى أحزاب مشخصنة في قيادتها ومتنازعة مشتتة في قاعدتها الشعبية، على الرغم من بقاء العقيدة ورحيل الأفراد. في المقابل هناك أحزاب أخرى أصبحت أقوى بإزالتها العناصر التعصبية والانعزالية المفسدة «فالأفراد يذهبون ويجيئون ويتبدّلون ويتغيّرون، أما العقيدة فتبقى راسخة لا تتبدّل ولا تتغيّر ولا تتزعزع مع النفوس المتزعزعة، وإذا سقط أفراد ضعفاء في عزائمهم وإيمانهم فالعقيدة لا تسقط بسقوطهم والقضية تبقى قائمة بقيام العقيدة»ـ (سعاده).

أما بالنسبة الى الموروث الديني فهو الأخطر اجتماعياً وسياسياً حين يتحوّل الى ايديولوجيا تتمثّل بممارسة طقوس روحانية ذاتية تدحض دور العقل والتفكير العقلاني، وهنا تقع الكارثة المجتمعية في فهم الدين وممارسته في الحياة الاجتماعية والسياسية، حيث نراه يتحوّل بفعل «التعصب» الى دين يقاتل السماء من أجل الأرض، حيث تتحوّل الجماعات الدينية المتعصبة الى مغذّيات حقيقية للخلافات الاجتماعية والسياسية، التي تغذي بدورها العنف والتطرف والانقسام وفرض حالة شاذة من التشتت والاستبداد الفكري والاجتماعي والتهميش السياسي.

إنّ أتعس مظهر يظهر به لبنان في هذا الوقت هو مظهر التشكيلات القائمة على التدجيل والمحاكاة والتقليد التي تنادي بالإصلاح، وهي أشدّ ما تكون حاجة الإصلاح. إنها قد كتّلت الطائفية وحوّلتها الى «قومية» متحجّرة لا شيء من نضارة الحياة والتقدّم فيه، ومع أنها ترى كيف تقود طائفة حية برجالها ومواهبها نحو الانعزال التامّ الخانق، والانفصال عن مجرى الحياة القومية فهي لا تزال تمعن في ضلالها، وتنادي بأنّ طريقها الموصلة الى الهلاك النهائي هي «طريق الإنقاذ» ـ سعاده.

وعليه تعتبر هذه المغذّيات العنفية التعصبية، مدخلات أساسية لانهيار المجتمع وتراجع دور الدولة المتحوّلة من دولة مدنية علمانية بحسب الدستور والقوانين والتشريعات، الى دولة طائفيةحزبية، محكومة من أشخاص ينتمون بالدرجة الأولى والأساسية الى الجماعات الانعزالية التعصبية.

من هذا المنطلق، نطرح السؤال حول كيفية بناء الدولة المدنية من الجماعات الانعزالية التعصبية الحاكمة والمحكومة؟ والجواب الحقيقي علمياً هو أن لا إمكانية لبناء دولة مدنية طالما أنه لا يوجد صراع حقيقي بين الحاكم والمحكوم، يتمخض عنه سلطة سياسية جديدة ومختلفة. فالشعب يلعب دوره كمصدر للسلطات انطلاقاً من واقعه السوسيولوجي المتقوقع أولاً، ومن واقعه الايديولوجي المأزوم ثانياً. وبالتالي تولد السلطة السياسية الحاكمة من رحم الجهل والتعصب والتبعية وليس من القلة المدركة والمثقفة والعلمانيّة.

وعليه، بات الصراع بين القاعدة الشعبية المنقسمة سوسيولوجيا وايديولوجيا، هو مصدر السلطات الوحيد، الذي حوّل الجمهورية الى ساحة مفتوحة للصراعات والحروب وتصفية الحسابات، وكذلك السرقات المشروعة، ونهب المال العام والتعدّي بشكل قانوني على البحر والأرض والجو. ومن الطبيعي أن ينكل أمراء الطوائف وأحزابها بهذا البلد وشعبه طالما أنهم ينتمون كما سبقت الإشارة إلى الجماعات الانعزاليّة التعصبيّة.. ومن الطبيعي أيضاً أن يرضى الشعب المحكوم بالذلّ طالما أنه يعيش في مجتمع مؤلف بأكثريته الساحقة من الجماعات الانعزالية التعصبية.

في هذا الإطار، يمكن طرح إشكالية العلاقة الراهنة بين الجماعات الحاكمة والأخرى المحكومة على مسرح السياسة اللبنانية، علّنا نؤكد هذا الربط الجدلي بين السوسيولوجيا والايديولوجيا، وكيف اصبحت قضية انهيار المجتمع اللبناني قضية جماعات انعزالية اجتماعياً وايديولوجياً.

 ننطلق من كتاب لـ «نعوم تشومسكي» المعنون بـ «قراصنة وأباطرة» بقصة صغيرة معبّرة يقول فيها: وقع أحد القراصنة في أسر الاسكندر الكبير، الذي سأله: «كيف تجرؤ على إزعاج البحر، كيف تجرؤ على إزعاج العالم بأسره أيها اللص؟». فأجاب القرصان: «لأنني أفعل ذلك بسفينة صغيرة فحسب أدعى لصاً، وأنت الذي يفعل ذلك بأسطول ضخم تُدعى امبراطوراً».

 يمكن ترجمة هذه القصة الصغيرة بلغة علميّة تفسّر لنا بوضوح أننا نعيش في الامبراطورية الانعزالية التعصبية اللبنانية، يحكمها اللصوص الكبار ويأكل من فتاتها اللصوص الصغار، ولا يأكل فيها من امتنع عن الصيد في البحر الملوّث أخلاقياً وقيمياً وإنسانياً ووطنياً. ومن لا يأكل يجوع، ولكن الجوع في دائرة التعصب المغلقة ليس بكافر بل هو مشيئة الله في السماء ومشيئة أمير الطائفة في الأرض. والنتيجة هي تحوّل الدولة الى مزرعة طائفيةحزبية يشبع فيها الحاكم القاتل والسارق والفاسد، ويجوع فيها المحكوم المتعصّب المنعزل بصمت.

ولاء الجماعات لأمراء الطوائف وأحزابها على حساب الانتماء الفعلي للوطن، هو أبرز صورة من صور التعصب والانعزالية على المستوى الايديولوجي، على اعتبار أنّ هذا التعصب المتحوّل ايديولوجياً هو في الأساس تعصب للطائفة وللحزب من منطلق الانعزال السوسيولوجي والفهم العاطفي غير العقلاني. هذه الترابطات المغذية للفاعلين اللاعبين الكبار والصغار ألغت مفهوم الدولة؛ وفرضت منطقاً واحداً يسري في منظومة القيم المولدة للتعصب والتبعية والتزلم. وبالتالي الى انهيارات متتابعة على كلّ المستويات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية والمالية والأمنية إلخ

أخيراً، إنّ الصراع الذي جلبناه معنا منذ ساعة وجودنا، هو الذي نعتمده لنستمرّ في تحقيق هذا الوجود، والصراع القائم بين نهضة الحياة القومية الاجتماعية ونهضة الأنانية الحقيرة التي تحاول بعد كل فشل وكل إفلاس أن تجمع من هذا الشعب مواردَ لترميها في النار التي أوقدتها هي، سيظل قائماً إلى أن تصرع إحدى النهضتين الأخرى، كما قال سعاده.

*مدير معهد العلوم الاجتماعية 3.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى