نقاط على الحروف

رياض سلامة لم يضع النقاط على حروف اللبنانيّين

 

 ناصر قنديل

 

قد يهتمّ التقنيون والخبراء الماليون ببعض الأرقام التي قدمها حاكم المصرف المركزي في إطلالته التلفزيونية، لكن سردية الأرقام وتعقيداتها في مخاطبة للرأي العام ليست سوى متاهة لا خروج منها، قد تنجح بتضييع الطاسة، لكنها لا تقنع أحداً ولا تردّ الكرة إلى مرمى أحد. وقد يهتم القانونيون بمناقشة حدود الصلاحيّات التي تحدّث عنها الحاكم في انتظام علاقته بالحكومة، فيسائله الرقميّون عما فعلته الهندسات المالية التي باعنا فضله بأنه فعلها ليشتري لنا وللحكومات وقتاً، عن كلفة هذا الشراء قياساً بعائداته. وقد يسائله القانونيّون عن موجبات العلاقة بين الحكومة والحاكم بغياب مفوّض للحكومة ونواب للحاكم، أي سقوط مرجعية نظرية اسمها المجلس المركزي، ومراجعة اعتراضيّة اسمها مفوضية الحكومة، لكن كل هذا سيبقى مجرد تفاصيل من المشهد الذي يتطلع نحوه اللبنانيون، الذين يتمحور سؤالهم حول: متى سيمكنهم التصرف بودائعهم، ومتى سيعود الدولار للتواجد شخصياً في السوق، وبأي سعر، وماذا عن وعده بأن الودائع بأمان والليرة بخير، إذا ما خرجنا من صومعة الحاكم وقيود مصرف لبنان، إلى أقرب كونتوار في مصرف أو شباك صراف، في شارع الحمراء، حيث لا يبعد عن مكتب الحاكم بضعة أمتار؟

الجواب سلبي وقاتم، فكلام الحاكم لم يقدّم ولم يؤخّر في ما يعرفه اللبنانيون بالملموس كل يوم، بأنهم غير قادرين على التصرف بودائعهم أو بجزء منها، وما يعرفونه بالملموس أيضاً أنهم غير قادرين على شراء الدولار بأسعار مصرف لبنان، بتدرجاتها الأول والثاني والثالث، وأن التجار يبيعونهم السلع على أساس سعر خامس هو مرّة ونصف قيمة السعر الرابع الذي يباع فيه الدولار في السوق، لأن سعر التجار هو 6000 ليرة للدولار إذا قارنا تسعيرات اليوم بأسعار السلع قبل ستة شهور، ولأن ما يطلبه أغلب اللبنانيين ليس في السياسة بل في حياتهم اليومية، وهم يوافقون الحاكم على رفض حصر المسؤوليّة به وبقراراته وتوجّهاته، ويدركون أن الحكومات المتعاقبة والمجالس النيابية المتعاقبة شريكة في المسؤولية عن النتائج الكارثية التي يعيشون في ظلّها، فمن حقهم أن نقول للحاكم، لم تكن موفقاً بالاستعانة بمثال الدول التي تسببت مواجهة الكورونا بدفعها إلى الركود والأزمات المالية، لأنها لا تصحّ في لبنان الذي أدركته الأزمة قبل كورونا، ولم يكن بلوغها مفاجئاً، كي تصحّ فيه حال الأسباب القاهرة التي تحاكي حال الدول التي تفاجأت بأزماتها بنتاج مواجهة وباء الكورونا، لندخل بعيداً عن السجال العقيم أو التخصصي في صلب الموضوع.

يعرف الحاكم أنه عاجز عن الإفراج عن ودائع اللبنانيين بالدولار، وكذلك عن ودائعهم بالليرة اللبنانية رغم تأكيده وجودها دفترياً. كما يعرف أنه عاجز عن ضمان سعر ثابت لصرف الدولار في سوق الصرف وجعله سعراً موحداً للقيود الدفترية وللسوق النقدية، ولأن هذين الأمرين هما ما يعنيان اللبنانيين فباقي الكلام لا يحرّك فيهم ساكناً، لأنه لا يعنيهم. والحاكم حاز مكانة مميزة عند اللبنانيين خلال توليه منصبه أتاحت له الوقوف فوق السياسيين وربما معاملتهم من فوق، لأنه كان قادراً على ضمان ما لم يعد قادراً على ضمانه اليوم، ولذلك فعليه أن يعتاد على حقيقة أن المقدس قد سقط، وأنه آخر هذا المقدس الذي سقط وقد سبقه سقوط السياسيين منذ زمن، وصار متاحاً للنقد مثلهم والنقاش معه يجب أن يكون حراً ومتاحاً، من دون الذهاب لعقل المؤامرة، والحديث عن خطط مدبّرة، وسواها مما يعتاده الواقع اللبناني ويكثر من استعماله.

قاد الحاكم السفينة المالية والنقدية وفقاً لما كان يظنه اللبنانيون خياراً استراتيجياً مدروساً، اقرب للحلم، ليكتشفوا أنه رهان يشبه الكابوس، والرهان أقرب للمقامرة. والفارق بين الرؤية الاستراتيجية والرهان هو أن الرؤية الاستراتيجية تعتمد خياراً مبنياً على فرضيّات وتقيم خطط خروج من خيار إلى آخر في حال تغيّرت الوقائع والحسابات، بينما الرهان لا يقيم هذا الحساب فيسقط بمجرد تغير الظروف والمعطيات. فالسؤال الذي يحق لنا توجيهه للحاكم هو عن خطط الخروج من الرهان على تثبيت سعر الصرف عندما بدأت السفينة تواجه خطر الغرق. وكما قال الحاكم معلوم أن فوارق الاستيراد عن التصدير في الميزان التجاري تلقي بضغط يقارب 17 مليار دولار مطلوبة في السوق كانت تتم تغطيتها من التحويلات الآتية من الخارج، ومنذ العام 2010، أي منذ دخول العقوبات الأميركيّة القاسية على اللبنانيين حيّز التنفيذ، بدأت تحويلات اللبنانيين من الخارج تدخل في الجفاف وصولاً للنضوب، وبدء العجز في العام 2010 موثق في تقارير المصرف المركزي، ومثله تواصل العجز التراكمي في ميزان المدفوعات أعوام 2011 و2012 و2013 و2014 و2015 وفقط في عام 2016 تحقق وفر ناتج عن الهندسات المالية التي قال الحاكم إنها بهدف شراء الوقت، بعدما كان العجز التراكميّ قد زاد عن 18 مليار دولار، ولم يبدأ العجز إذن في عام 2015 كما قال الحاكم، ليفسر لنا أنه في العام التالي أقدم على الهندسات لنشتري الوقت، بل انتظر خمس سنوات ليفعل شيئاً، ويا ليته لم يفعل، لواجهنا الوضع الذي نواجهه اليوم بمعطيات أفضل وظروف أقل وطأة. فالهندسات هي عملياً شراء مليارات عدة من دولارات المصارف بضعف السعر أي بـ 3000 ليرة للدولار. وهي نسخة عن كل المنهجية التي قاد عبرها الحاكم سفينة المال والنقد، معالجة الدين بمزيد من الدين، وارتفاع الفوائد بمزيد من الارتفاع، وهذه هي النتيجة أمامنا.

الحقيقة أن سياسة تثبيت سعر الصرف، وبموازاتها تمويل الدولة بالمزيد من الديون، بمثل ما يجب مساءلة الذين توالوا على الحكم عنهما، لم يكونا عند حاكم المصرف مجرد طاعة وتلبية لتعليمات السلطات السياسية، بل كانا استراتيجية المصرف المتلازمة، بين تثبيت سعر الصرف والدين بفوائد مرتفعة، فتلك هي فلسفة الحاكم المالية والنقدية بجناحيها الأقرب للسحر الأسود. فكم من مرة فاقت الديون المسجلة على الخزينة حاجاتها، بداعي سحب السيولة لحماية سعر الصرف ولو عبر المزيد من الاستدانة من دون ضرورة مالية للدولة، عبر إغراء الفوائد المرتفعة للمصارف كي تستجيب لطلب المصرف، برفع نسب ودائعها لديه، ويحمي سعر الصرف، والحصيلة هي سؤال: هل بيئة الفوائد العالية هي بيئة مناسبة لنمو الاقتصاد والاستثمار، أم هي مجرد بيئة للمضاربات المالية والعقارية؟ فهكذا تجمّد الاقتصاد وتراجع الإنتاج، ودخلنا في دائرة مغلقة ستنفجر بوجهنا يوماً ما، وهذا اليوم هو عندما يتقلص عائد التحويلات من الخارج الذي يعوّض ضعف الإنتاج والتصدير مقابل ارتفاع متزايد في فاتورة الاستيراد بفعل التشجيع على الاستهلاك الذي وفّره تثبيت سعر الصرف، وأغرت به الفوائد المرتفعة.

بين العامين 2009 و2010 كانت اللحظة التي يجب أن يتحرّك خلالها مصرف لبنان لتعديل الخطة، ولوضع استراتيجية خروج من الرهان، وكان المناخ السياسي مؤاتياً، في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وبعدها حكومة الرئيس سعد الحريري، في عهد الرئيس ميشال سليمان، فميزان المدفوعات يُنذر بالخطر عند مصرف لبنان خلال عام 2009 وأظهرته حصيلة العام 2010 وتواصل بعدها. والخروج من الرهان هو أولاً بوقف نزيف العملات الصعبة، بضغط الاستهلاك تدريجاً خلال خمس سنوات من 20 ملياراً إلى 15 ملياراً ورفع التصدير من 3 إلى 5 مليارات، وهذا كان ممكناً بتعاون الحكومة والمصرف المركزي، لتضييق الفجوة في ميزان المدفوعات من 17 ملياراً إلى 10، ومعها تحرير تدريجي مسيطر عليه لسعر الصرف ضمن خطة خمس سنوات تسمح بخسارة الليرة 25% من قيمتها، لدخول خمسة أخرى ينخفض خلالها الاستيراد من 15 إلى 10 مليارات ويرتفع التصدير من 5 إلى 7 – 8 مليارات، وتحرير إضافيّ لسعر الصرف بنسبة 25 % خلال خمس سنوات أخرى، وضمن كل ذلك التخطيط وفي طليعته تخفيض الفوائد لتشجيع الاستثمار في الإنتاج، فهل أوصلنا الحاكم إلى خروج هادئ من رهانه عندما تغيرت المعطيات، أم واصل إصراره على الرهان، حتى سقطنا كتدحرج صخرة كبيرة من أعلى الجبل نحو قعر الوادي؟ فهل فكر في تغيير المنهجية ومواجهة المخاطر، هل فعل ذلك؟ هل طلب ذلك ورفضوه، هل حذّر من هذا السقوط ولم يسمعوه؟ إن كان ذلك قد حصل فهو بريء وهم وحدهم المذنبون، ولعله عندها يخرج علينا بما يثبت أنه فعل وحذّر ليبرئ اللبنانيون ساحته، وإن لم يفعل، وهذا هو الأرجح بدليل الهندسات المالية المشؤومة، فهو خاض رهانه كأنه يقامر بماله الخاص، يتقبل لمتعة المغامرة خسارة كل شيء، أو ربح كل شيء، واللبنانيون لم يأتمنوه ليفعل ذلك بأموالهم وجنى أعمارهم، وحقهم بالعيش الكريم، من دون أن ينتقص ذلك من مسؤولية من أفسدوا وسرقوا واستغنوا بأموال غيرهم، وتنعموا بالفوائد والهندسات، لكن لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فمسؤوليته تبقى الأكبر بهذا القياس، لأنهم سيلقون المسؤولية عليه ساعة الحساب بداعي، أن رياض قال إن الأمور بخير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى