أولى

مهرجان صور 1974 وعبرة الإمام الصدر عن ذي القرنين

 

 د. خليل حمدان*

شهد العام 1974 حراكاً مطلبياً قاده الإمام السيد موسى الصدر أعاده الله سالماً وأخويه إلى ساحة جهادهم، إذ جاء ذلك ردّاً على تجاهل السلطة اللبنانية لتلبية أبسط حقوق المواطنين اللبنانيين في المناطق كافة، اذ إنّ المواطن اللبناني يعيش تحت وطأة الحرمان وتمادي العدو الصهيوني في جرائمه التي طالت الحجر والبشر من دون رعاية او حماية لمواطن لم يقصّر في إثبات تمسّكه بأرضه في ظروف بالغة الدقة، حيث يعانق الجنوبي جرحه وعلم بلاده ولا تُمَدّ له يد العون، فيما الوعود المعسولة تغدق من كلّ حدبٍ وصوب، كمن يسمع جعجعةً ولا يرى طحيناً.

إنّ وعي الإمام الصدر لمشكلات المحرومين جاء مبكّراً، فهو على دراية بعمق الأزمة قبل ان يحطّ رحاله في صور عام 1955، وهذا ما أشار اليه الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين والمحيطون به. إذ إنّ الامام الصدر في زيارته الأولى، والتي جاءت على عين الإمام شرف الدين حيث إنّ الوافد كان يمتلك مخزوناً وافياً عن آلام الجنوبيّين وكلّ المحرومين في لبنان وآمالهم، وبتفصيل منقطع النظير كأنّه والمحرومين كمن فيهم، والاعتداءات الصهيونية كمن رآها واكتوى بنارها. وفي مطلع الستينيات من القرن الماضي يحاول الإمام الصدر بلسمة الجراح مطالباً ومندّداً باستهتار المسؤولين أمام الناس: «إن لم يكن من قدرة على الحماية، أليس من طاقة على الرعاية؟ وان حصل الإجحاف في الحقوق فلماذا يستمرّ العقوق؟». من هنا كانت ثنائيةٌ تحكم خطاب الإمام الصدر وحاضره في كلماته سواء أكان في الجلسات العامة او الخاصة الرسمية والشعبية الدينية والوطنية، ثنائيّة تضع الإصبع على الجرح النازف الراعف تتمثل بمشكلتي العدوان والحرمان، وكلاهما يكمّل الآخر، بمعنى استمرار الحرمان بمثابة جرعة إضافية لاستمرار العدو الصهيوني في الاعتداء على أهلنا في كلّ مكان، وسط ترنّح الموقف الرسميّ الذي وصل الى حالة اللاموقف. وبعد هذا جاء ليصدح باسم المحرومين والمعذّبين والمقهورين. وكان مهرجان بعلبك في 17 آذار 1974 الذي أقيم على أرض بعلبك الأبية بأهلها وشعبها، وكانت مناسبة حضرها عشرات الآلاف، حيث قيل يومها: «الناس كأنّهم في يوم الحشر، لا مكان لقدم، ولا يد إلا وتحمل السلاح». وقال الإمام حينذاك كلاماً أقسى من الرصاص، والعهد والوعد سنبقى إلى جانب الحقّ، إلى جانب الوطن نخاصم أعداءه ونخاصم «إسرائيل» وأصدقاء «إسرائيل».

ثم جاء مهرجان صيدا في 4 نيسان 1974، واللقاء مع أبناء صيدا الأبيّة من الجماهير التي احتشدت من كلّ حدبٍ وصوب. وكان لقاء فيه الشهيد معروف سعد وصرخة الإمام: «السلاح زينة الرجال».

مهرجان صور

بعد أربعين يوماً من مهرجان بعلبك، وبمناسبة وفاة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، كان مهرجان صور بتاريخ 5 أيار 1974، صور المدينة التي قاومت الغزاة عبر التاريخ وأقفلت أبوابها بوجههم، وفتحت ذراعيها وضمّت إلى صدرها زحفاً بشريّاً قلّما شهد لبنان مثله، شخصيات دينية وسياسية وحشود جماهيرية، جاءت لمبايعة الإمام للمضيّ بتحقيق مطالبهم وكانت صرخة الإمام المدوية التي تجاوزت المهرجان لتقلق المسؤولين في مضاجعهم وكراسيهم الوثيرة، ولكنّ الإمام يبحث عن وسائل الحماية والعناية، والسلطة تبحث في داخلها ومع الخارج عن ثمن الجنوب، كما جاء في المقدمة التي كتبها الامام الصدر بكتاب الصحافي جان نانو بعنوان «ثمن الجنوب» الذي صدر العام 1970 حيث قال: «البحث في ثمن الجنوب هو ثمن لبنان، في ثمن وجودنا ودمائنا وأعراضنا. فهل الجنوب بثمن؟ جواب في غاية المرارة، بقلق ويخلق الرعشة والألم، ولكنه مقترن بالأمل».

في مهرجان صور قال الإمام كلاماً ما زال صالحاً ليكون خريطة طريق من ضرورة المقاومة إلى سبل إزالة الحرمان إلى مشروع الليطاني. في مهرجان صور قال الإمام كلاماً يصلح ليكون خريطة طريق لإصلاح العالم بأسره، وليس في ذلك من مبالغة لأنّ الإمام امتلك مبكّراً رؤية تستهدف الإنسان في كلّ مكان. فيه حديث عن ذي القرنين الذي أشار فيه لأسباب الفشل والنجاح في صيانة المجتمعات والأوطان والدول الكبرى والصغرى لا سيما في ظلّ الأزمة التقتصادية والصحية التي تجتاح العالم كحالنا اليوم.

ماذا عن ذي القرنين؟

قال الإمام في مهرجان صور منذ ستة وأربعين سنة: «إنّ أحد الملوك القدامى من الصين يسمّي نفسه بذي القرنين».

ذو القرنين يعني صاحب قرنين اثنين لماذا؟ لأجل ماذا القرنان؟ «الرجل عندما تسلّم الحكم، وجد بلاده تعيسة وأنّ العاطلين عن العمل كثيرون، فبدأ يعمّر ويشغّل الناس فوضع حول العاصمة بناءً فخماً يشغّل الناس في بنائه، ويدفع لهم الرواتب، يمنعهم من البطالة ويصون البلد ويعمّر العاصمة فسمّي هذا القرن الأول. ثم بدأ يبني حائط الصين المشهور حول الوطن لصيانة الوطن، وكان هذا القرن الثاني». وهذا يُعتبر إنجازاً حسب الإمام الصدر. ولكن في لبنان على العكس من ذلك، يرى أنّ في لبنان ذا قرنين، ولكن قرن من الغباء السلطوي وقرن متمادٍ في حرمان الناس وإذلالهم وتركهم إلى مصيرهم المحتوم.

قرن حزام البؤس والمنطقة المحرومة، الحزام المحيط حول بيروت والقرن الثاني للسلطة في تلك المرحلة، التخلّي عن الجنوب وأهله وتركهم عرضة لعدوانية «إسرائيل»، فيما الحدود هي كالجلد لجسم الانسان إذا ما تعرّض لحريقٍ يودي بكامل جسم الناس، والتخلّي عن الجنوب تخلٍّ عن العاصمة بيروت، بل عن كامل الوطن.

من هنا نجد أنّ انطلاق المقاومة والإعداد لها من قبل الإمام الصدر، كانا بمثابة سدّ الفراغ الذي تركته السلطة، وكذلك المحاولة الحثيثة لتحقيق المطالب.

بالتأكيد لم تغب عن مهرجان صور المطالبة بتنفيذ مشروع الليطاني، حلم الإمام الصدر. وهنا ينبغي لنا ان نسجّل للأخ الرئيس نبيه برّي الذي بذل جهوداً كبيرة لتنفيذ مشروع الليطاني. هذا المشروع الذي سيتحقّق قريباً، والذي سيروي عشرات المدن والقرى، لتصبح عشرات آلاف الدونمات مرويّةً، ممّا يعزّز صمود المواطن على أرضه.

وأخيراً قد يُقال إنّ العودة إلى الماضي ليست إلا محاولة لإنعاش ذاكرة البعض، ونقول للأسف أن تتكرّر المطالب نفسها اليوم، ويأتينا ذو القرنين العابث بمستقبل الأرض والإنسان بدل ذي القرنين الذي يخرج الحلول لبلسمة آلام شعبه وآماله وصيانة حدوده.

فهل من مبرّرٍ لطرح سؤالٍ: لماذا المقاومة اليوم؟! وهل الإصرار على الإصلاح والإنماء تهمة؟!

قسماً لن نسكت ما دام في لبنان محروم واحد.

* عضو هيئة الرئاسة لحركة أمل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى