نقاط على الحروف

الحريري: الرقم الصعب أو الخاصرة الرخوة؟

 ناصر قنديل

خلال خمس عشرة سنة منذ اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري، والرئيس سعد الحريري كوريث سياسي ومالي لمملكة والده يصارع معادلة التنقل بين السعي للتحوّل إلى الرقم الصعب في المعادلات ومخاطر التحوّل إلى الخاصرة الرخوة فيها، وهو يتعلم من «كيسه» كما يُقال، يخاطر ويغامر ويعقد التسويات ويخرج منها، ويخوض المواجهات وينسحب في نصفها، ولا يكاد يراكم الأرباح حتى يخسرها بضربة واحدة ومعها بعض رأس المال. وهو يدرك اليوم أنّه ليس حصان تسوية كالتي ظنّ أنها ستعيد إنتاج زعامته من بوابة السلطة، ولا هو زعيم المواجهة التي اعتقد أنها ستعيد بناء شعبيته المتآكلة بفعل وجوده في السلطة، فقفز من قارب التسوية من دون إنذار مسبق للشركاء الذين خسر ثقتهم، من دون أن يربح مكانة في انتفاضة 17 تشرين ظن أن الاستقالة ستكون بوابتها، ولم ينفعه في رسم خريطة طريق للعودة إلى المعادلة السياسية على حصان أبيض، كما توقع ومعه الكثيرون، تقيّده بوصفة جيفري فيلتمان حول الانتفاضة وإدارة العلاقة معها، بتجنب تحويلها إلى معركة بوجه حزب الله، والدعوة لحصرها بوجه الحليف المشترك للحريري والحزب، أي التيار الوطني الحر ورئيسه الوزير جبران باسيل. وهو اليوم يعيد الوقوف في النقطة الأصليّة ذاتها، السعي للتحول إلى رقم صعب والقلق من التحوّل إلى خاصرة رخوة، لكن برأسمال أقلّ وظروف أصعب ومخاطر أعلى.

البعد الدولي والإقليمي الذي يشكل دائماً الإطار الأوسع لحسابات الحريري، ليس مساعداً، فهو لم يعد يملك مفاتيح قراءة المواقف الأميركية مع لاعب متهوّر وبراغماتي في آن واحد، وواقعي ومغامر في آن مقابل، اسمه دونالد ترامب، كما لم يعُد يجد في الرياض الحضانة الدافئة والرعاية المفتوحة على بياض الشيكات والسرائر، والجاهزة للحماية على قاعدة الشراكة التي لا تهتزّ في السراء والضراء، مع وجود القرار السعودي بيد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وتجربة الاحتجاز في الريتز ليست مجرد حادث سيئ، بل هي تلخيص لحجم الشكوك والظنون التي يصعب تخطيها والبدء من الصفر. كيف وأن واشنطن والرياض لديهما ما يكفيهما من الهموم والاهتمامات والأولويات قبل كورونا وبعد كورونا، كي لا يكون لبنان كله أولوية، فكيف يكون بعضه، وبعض من هذا البعض، واليوم المنطقة كلها تفقد مكانة الأولوية الأميركية، ولبنان يفقد زاوية الاهتمام السعودي، بينما يحضر لاعبون دوليون وإقليميون، كفرنسا التي لا يحكم قصر الإليزية فيها جاك شيراك، بل براغماتي خاسر يسعى لعدم خسارة لبنان كآخر مقعد لفرنسا في المنطقة اسمه امانويل ماكرون، وروسيا الآتية من بوابة التحالف مع سورية وإيران وحزب الله، ومقابلهما إقليمياً إيران اللاعب الذي يحسب له الحساب من جهة، ومن جهة مقابلة تركيا التي قطعت المتوسط بحثاً عن دور في ليبيا ولن تمنتع عن مخاطرة مشابهة في لبنان، وهي الآتية على قاعدة السعي لوراثة الدور السعودي في شمال لبنان بصورة خاصة، ولا تجد أمامها إلا الحضور الإماراتيّ الذي أفسد الودّ في علاقة الحريري بولي عهدها الكثير والكثير جداً.

في البعد الداخليّ يتلاقى وضع اقتصادي ضاغط ومتفجّر على اللبنانيين، ولا يملك الحريري وصفة سحرية لمواجهته وقد زال زمان السحر التمويلي لباريس مكرّر وسيدر لم يعد على الطاولة غب الطلب وإن وجد فليس ضمن حصر إرث يعود للحريري وحده الإفادة منه، والأزمة التي أحرقت أيادي الجميع لا مكان للحريري في قطار الإنقاذ منها بنظر اللبنانيين، بقدر ما يحمل أعباء الوصول إليها، بنظر أغلبية لبنانية ترى أنه المسؤول عن سياسات ماليّة قلد خلالها سياسات والده في زمن غير مناسب، وواصل اتباع وصفات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عندما كان الوقت قد حان لاستبدالها بعكسها، أي منذ العام 2010 عندما بدأ ميزان المدفوعات يميل للخسارة وتراجعت تحويلات اللبنانيين في ظل نظام العقوبات، وكان ينبغي عندها وقف سياسات الاستدانة والفوائد المرتفعة، والسعي لخطط اقتصادية ومالية جديدة تبني الإنتاج وتتكامل مع المحيط الطبيعي، أي سورية والعراق، فيما كان هو منشغلاً بالتحضير للمعركة مع سورية، ويقدّم أوراق اعتماده في حرب الرهان على سقوطها، وفي قلب طائفته لم تعد زعامة الحريري كما كانت، فعلى يمينه وشماله فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي ونهاد المشنوق وأشرف ريفي، وجماعات التطرّف، وجاءه من حيث لا يحتسب منافس لا يُستهان بمقدراته وفرص تقدّمه، هو الرئيس حسان دياب. وقد استهان الحريري بالأمرين معاً.

لا يبدو أمام الحريري من خيار سوى حذف الاحتمالين بالتوازي كي ينجو، أي التخلي عن وهم الرقم الصعب كي يتفادى كابوس الخاصرة الرخوة، فيحذف احتمالاً ليسقط الثاني تلقائياً، في طريق بحثه عن جواب جائزة المليون، ولن يفيده الاستقواء بالجمهور، الذي لا يحتمل اللعب بالمخاطرات. فلا مكان ليركب موجة التطرف لأنها ستلغيه وتسرّع بتحويله خاصرة رخوة، ولا موجة المواجهة مع العهد لأنها ستقصيه ومشهد وليد جنبلاط في بعبدا يجب أن يضيء عنده الضوء الأحمر، بأنه قد يخسر كل الرصيد المتراكم بسبب إجابة خاطئة، بينما يمكنه الامتناع عن الإجابة والاكتفاء بالربح المحقق، ليصل إلى خيار حتمي هو الاستعانة بصديق، هو حكماً رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي خذله الحريري باستقالته المفخّخة، ليستفيد مما فعله جنبلاط، ويتعلم من أخطاء الماضي، عله يستطيع الوصول إلى صيغة تنظيم العلاقة مع رئيس الحكومة الصعب حسان دياب، على قاعدة الفصل بين الرئاسة والزعامة، وهي المعادلة التي أوصلت الرئيس السابق ميشال سليمان للرئاسة مقابل تعهّده احترام زعامة العماد ميشال عون، وتنكّر لها سليمان بعد وصوله إلى قصر بعبدا، بينما يستطيع دياب احترامها إذا ارتضى الحريري سداد كلفتها، بالتساؤل عن مبرر تمسكه بأغلب الذين يرسم حولهم خطوطاً حمراء، ويرفض تعرّضهم للمساءلة، من رؤساء حكومات سابقين ووزراء سابقين وصولاً لحاكم المصرف، وأغلبهم إما يعتاش على رصيده، أو يحفر له حفرة السقوط المدوّي وأحسنهم باعه في التوقيت السيئ بثلاثين من الفضة، وهو بين كل هؤلاء أقلهم مسؤولية في حساب الفساد، كما في حساب رسم السياسات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى