الوطن

المراوحة الحكوميّة لا تكفي لإنقاذ البلاد

} د. وفيق إبراهيم

سياسات «تقطيع الوقت» بانتظار الغوث الخارجي لن تكفي لتهدئة مفاعيل خطيرة للانهيار الذي يدكّ لبنان اقتصاداً وسياسة وكياناً للمرة الأولى في تاريخه.

هناك بلد هو لبنان أسقطته سياسات اقتصادية حريرية متحالفة منذ 1992 في أتون انهيار اقتصادي غير مسبوق، وفرّت كي لا تتحمل المسؤولية، لكنها تخشى حالياً ان تنجح قوى منافسة لها في إقرار معالجات نسبيّة للوضع المتدهور.

فتعود لمجرد العرقلة ووضع نفسها في موقع مَن ينتظر كبح الانهيار، ليعود إلى رئاسة الحكومة. هكذا هو حال المنتمين الى الرأسمالية المتوحشة، تسرق حتى تجفيف المورد وتعود إليه بعد استتباب أوضاعه فتستعين بالطابع الطائفي للدستور اللبناني والانقسامات المذهبيّة لتجمع بين رأسماليتها المتوحشة وهواها السعودي القبلي والانقسامات الطائفية اللبنانية وأبعادها الأميركية الغربية، ما أدى إلى إفلاس لبناني كامل في الأخلاق والسياسة والاقتصاد والعلاقات الداخلية والخارجية.

ما يهم هنا، أن حكومة حسان دياب، هي الآلية التي دعمتها شبكة تحالفات داخلية، وارتضت بها قوى الخارج لأنها لا تتحمل في هذه المرحلة انفجار فوضى داخلية لبنانية، تحتاج إلى إدارة إقليمية للجم تداعياتها أي كما حدث في حروب السبعينيات الطوائفية.

الآن الوضع مختلف، فهناك جائحة الكورونا والتراجع العالمي الاقتصادي، وهما عاملان لا يسمحان بتمويل صراعات داخلية لبنانية قد تمتدّ الى فلسطين المحتلة وأنحاء أخرى من الشرق، هناك عناصر أخرى، وهي أن الجيوبولتيك الأميركي في الشرق يجتاز أسوأ مراحله باعتراف الرئيس الأميركي ترامب لذلك فالآمال معقودة على حكومة حسان دياب، ولأن الانهيار ضخم وأكبر بكثير من إمكانات لبنان فلا يمكن مجابهته إلا بشكل تدريجيّ مقسّم الى مراحل في الأهداف والزمن.

ويصادف ان الوضع اللبناني لا يحتمل الانتظار، فهناك انخفاض مريع في أسعار العملة الوطنية في بلد كلبنان يستورد بعشرين مليار دولار سنوياً ويصدر بما قيمته ثلاثة مليارات فقط، ما يتحوّل غلاء سريعاً في اسعار مواد الاستهلاك الداخلية والخارجية، مقابل تدهور في قيمة الرواتب يتعدّى السبعين في المئة وأكثر..

فكيف يشتري اللبنانيون من أبناء الطبقات الفقيرة والوسطى ما يسدّ جوعهم براتب كان الحد الأدنى منه قبل شهرين فقط يعادل 450 دولاراً، وهوى حالياً إلى مستوى 180 دولاراً شهرياً، أليس هذا هو الجوع بعينه دافعاً نحو «ثورة فعلية» على غير شاكلة الانتفاضات المجهرية السابقة، من حيث العنف والقدرة على جذب اللبنانيين الى الشارع للدفاع عن لقمة عيشهم وسط مناخات جديدة، لن يستطيع التأثير الديني استعمال الغيب للجمها كما كان يحدث دائماً.

يكفي أن الأرقام الرصينة تتحدّث عن تضخم فاقت نسبته 53 في المئة، وتعدّى معدل الفقراء المعوزين الستين في المئة، الى جانب ثلاثين في المئة لديهم مدخرات تعينهم على تمرير بضعة أشهر قبل هبوطهم الى درجات إفقار رهيبة.

بذلك تكتمل حلقات مشهد رهيب لانفجار لبناني عام له تداعيات على الدولة، ولأن الخارج لن يكون له كبير أثر، فقد تنحو الأمور باتجاه انقسامات طوائفية جغرافية، تؤدي إلى تصديع الكيان السياسي اللبناني بأشكال مختلفة.

هذا المشهد الدراماتيكي هو ما تعمل الحكومة الحالية على منع تكونه بخطة اقتصادية لمعالجة الانهيار البنيوي بوسائل داخلية وخارجية.

وهذا يحتاج الى وقت يبدو بوضوح أنه أكبر من قدرة اللبنانيين على الصمود، فإذا كانت الصناعة الداخلية اللبنانية تشكّل 8 في المئة من الاستهلاك الداخليّ، فهل بإمكان الحكومة تنشيطها في غضون أشهر الى مستوى ثلاثين بالمئة فقط، في وقت تتراجع فيه اقتصادات العالم بسبب الشلل الاقتصادي والاجتماعي عالمياً.

إن معظم المعالجات الداخلية من إقفال معابر غير شرعية وضبط جمارك متفلتة ولجم التهريب، هي تدابير ضرورية انما لمراحل تعود فيه التفاعلات الاقتصادية مع الخارج وهي متوقفة حالياً، بما يعني أنها لن تجلب ريوعاً سريعة لإنقاذ اللبنانيين من «جائحة الجوع».

ما يظهر واضحاً هو وجود تجاهل حكوميّ متعمّد ينأى عن التركيز على مصادر دخل سريعة بإمكانها نقل البلد من الانهيار الى المراوحة، وهي استعادة الأملاك البحرية والبرية التي يصادرها سياسيون أو جهات مدعومة منهم/ وبإمكانها ان تؤمن ريعاً هاماً جداً لموازنة لبنان، بالإضافة إلى الأموال العامة المنهوبة التي تبلغ عشرات مليارات دولارات.

مع المباشرة الفورية في عقد الصفقات بين دولة ودولة على مستوى الكهرباء والطاقة وكل أنواع الاستيراد.

إن هذه العناصر الثلاثة تستطيع تأمين 28 مليار دولار هي ما يحتاجه لبنان حتى العام 2024 فيصبح بإمكانه تحسين الصناعة ورعاية استقرار يُعيد إنعاش قطاع الخدمات، وانتظار المدد الخارجي عبر الصناديق الدولية ومؤتمرات سيدر والديون والمساعدات التي أصبحت صعبة الى درجة الاستحالة.

لا بدّ في النهاية من التشديد على ان الانهيار الاقتصادي اللبناني غير قابل للمعالجة النهائية إلا بخطة من طابقين: الأول هي خطة حكومة حسان دياب على أن تضاف اليها إجراءات سريعة باستعادة الأملاك العامة والأموال المنهوبة.

أما الثانية فهي ضرورة البحث عن مصادر اقتصادية دائمة، يصادف أنها متجذّرة في الحدود مع سورية الوحيدة التي تسمح للبنان بإنعاش قطاع الخدمات في الاستيراد والتصدير والمصارف والسياحة والاصطياف على مدى جغرافي يزيد عن حوالي 3 ملايين كيلومتر مربّع ويشمل لبنان وسورية والأردن والخليج والعراق.

بذلك يتمكن لبنان من تجديد دوره في المنطقة، ورعاية وئام داخلي بين طوائف يجب العمل على دفعها للاندماج والانتقال من الانتماء الى المواطنة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى