أولى

كيف نغيّر بلداً لا ثواب فيه ولا عقاب؟

 د. عصام نعمان*

أجرؤ على القول إن لبنان بلد لا ثواب فيه ولا عقاب. لا محاسبة سياسية خصوصاً للمسؤولين عن الشأن العام، ولا محاكمة لأي حاكم انتهت الى إيداعه السجن. ثمة سجناء رأي كثيرون، لكن ليس بين هؤلاء حاكمون مرتكبون. للحكام، ولا سيما الزعماء منهم، قداسة لا تقع على مثيل لها في العالمين. ومَن تكون له قداسة يصبح فوق النقد والمساءلة.

غير أن نائباً حقيقياً عن الشعب، عضو كتلة «الوفاء للمقاومة» حسن فضل الله، اختار أن يسلك طريق المساءلة والمحاسبة بلا هوادة. عقد مؤتمراً صحافياً كشف فيه أنه أودع القضاء 10 ملفات معززة بالوثائق والأرقام بشأن فضائح فساد وفاسدين استوجبت بحثاً ومتابعة وملاحقة استغرق إنجازها نحو سنتين، وتناولت جملة إدارات ومؤسسات ومشروعات أبرزها:

الإنترنت غير الشرعي الذي بلغ الهدر السنوي فيه لا أقل من 300 مليون دولار.

المحروقات (الوقود) حيث تمّ الادعاء على 10 شركات، وقدّرت قيمة الهدر فيه بمبلغ 21 مليون دولار.

الكهرباء حيث قُدّرت السرقات بما يتجاوز الـ 50 مليار دولار.

المشاعات غير الممسوحة التي تعود الى البلديات وأملاك الدولة العامة حيث قُدّرت قيمة المساحات التي جرى الاستيلاء عليها احتيالاً من افراد وجماعات بمليارات الدولارات.

الحسابات المالية حيث تمّت فيها تدخلات وتغيير ارقام، بينما المبالغ التي ما زالت قيد التدقيق تربو على 31 مليار دولار.

كل هذه الملفات وما تحتويه من فضائح وهدر بمليارات الدولارات لم يشفعها النائب فضل الله بذكر أية أسماء. ثمة فساد ولا فاسدون، الأمر الذي حمل بعض الإعلاميين على مصارحته بأن حجب اسماء الفاسدين يؤدي الى الاستخفاف بعملية مكافحة الفساد وبالتالي الى عدم صدور أحكام تزجّ بفاسدين في السجن.

فضل الله ردّ بأن حزب الله الذي ينتمي اليه يلتزم مبدأ عدم التشهير. فالقضاء هو الجهة المسؤولة عن التحقيق والمحاكمة وإصدار الأحكام التي تتضمّن بطبيعة الحال أسماء المرتكبين.

قيل له إن القضاء لم يحاكم فاسداً وبالتالي لا احكام صدرت عنه. ردّ فضل الله بأن القضاء يبقى مسؤولاً، وكل قاضٍ لم يبتّ بملف او دعوى قُدّمت اليه بشأن فساد وفاسدين لا يُعتبر مسؤولاً فحسب بل متواطؤ ايضاً مع الفاسدين.

حسناً، ولكن ماذا إذا استمر القضاء متلكّأ عن الوفاء بواجباته؟ اعترف فضل الله بأن الحرب على الفساد أصعب من الحرب ضد الاحتلال الإسرائيلي بالنظر الى تشابك التعقيدات الداخلية، السياسية والطائفية والمذهبية، ما حمل حزب الله وكتلته البرلمانية على مباشرة ورشة تشريعية انتهت الى تقديم جملة اقتراحات قوانين، لعل أبرزها تعديل قانون المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء بما يؤدي الى رفع الحصانات عن الوزراء وإجازة محاكمتهم أمام القضاء العدلي المختص، ولكن هذا التشريع لم يقرّ «لاعتبارات غير مفهومة».

الاعتبارات التي يقول النائب فضل الله إنها غير مفهومة هي في الواقع مفهومة تماماً. ذلك أن قسماً غير قليل من النواب ينتمي الى زعامات واحزاب وهيئات مشتبه بأنها ضالعة في الفساد ويهمها التغطية على «أبطاله» والمشاركين في «خيراته» بمنع إقرار قوانين من شأنها تسهيل ملاحقة الفاسدين وشركائهم. هكذا يتضح أن البلد يعجّ بقضاة وموظفين ونواب ووزراء متواطئين مع الفاسدين، وان نظام المحاصصة الطوائفية يحمي هؤلاء جميعاً على مرّ تاريخ لبنان السياسي.

كل هذه الحقائق والفضائح والتجاوزات والشبهات تضع البلد في حال «لا ثواب ولا عقاب» فتستمرّ أزماته المتلاحقة وتتعقد وتعمّر. أليس هذا هو السبب الرئيس للانهيار الخلقي والاقتصادي والاجتماعي الذي وضع لبنان على حافة الإفلاس؟

كيف الخروج من هذه المحنة؟

كثرٌ من أهل الرأي والإعلام والثقافة مصابون، إزاء هول الفضائح والسرقات، بالإحباط. بعضهم قال صراحةً إن لبنان عصيّ على التقويم والاستقامة والإصلاح، بل أعلنوا بلا مواربة: فالج لا تعالج!

لا شك في أن حال البلد قاتمة، معقدة، وان لا بصيص نور، حالياً، في نهاية النفق. مع ذلك يصرّ الأحرار في نفوسهم على عدم الاستسلام لليأس، بل يصرّون على استئناف النضال من اجل تحرير الوطن من نظام المحاصصة الطوائفية المتخلف ومن شبكته الحاكمة المترهلة.

إن الإصرار على متابعة النضال من أجل التغيير هو المبتدأ والخبر. مَن يعتنقون هذا المبدأ ويعيشونه كطريقة حياة مدعوّون الى التكاتف والتضامن ووضع المناهج واجتراح الآليات وإقامة الهيئات وتنظيم المجموعات التي تعمل في هذا السبيل بلا هوادة على النحو الآتي:

أول المواقف التي يقتضي اتخاذها في هذا السبيل هو الاقتناع العميق المتين الصافي بأن لا أمل ولا رجاء ولا جدوى من نظام المحاصصة الطوائفيّة وشبكته الحاكمة ما يستوجب تفعيل النضال لإجلائهما من السلطة بلا إبطاء.

ثاني المواقف دعوة الرئيس حسان دياب وحكومته الى التشدّد في مفاوضة صندوق النقد الدولي لتفادي أية شروط قاسية تتعلّق بفرض ضرائب إضافية ترهق الطبقات الشعبية وتترك سعر صرف الليرة للعرض والطلب ما يؤدي الى استفحال الغلاء، كما الحرص على تفادي أية شروط تُسيء الى مبدأ سيادة الشعب على إرادته وأرضه وموارده.

ثالث المواقف التشدّد في محاسبة وملاحقة ومحاكمة كل المعتدين على موارد البلاد والأملاك العامة وناهبي الأموال العامة والمشاركين في صفقات على حساب الخزينة والمصلحة العامة.

رابع المواقف الدعوة بلا إبطاء الى تبنّي مشروع القوى الوطنية والتقدمية للانتخابات على اسس الدائرة الوطنية الواحدة، والنسبية، وخفض سن الاقتراع الى الثامنة عشرة، وتنفيذ المادة 22 من الدستور القاضية بانتخاب مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي، ومجلس شيوخ لتمثيل العائلات الروحية، على أن يتمّ إقرار هذا القانون في استفتاء شعبي عام، وإجراء الانتخابات وفق أحكامه.

خامس المواقف الانفتاح على سورية والعراق وإيران والصين لتعزيز مصالح لبنان الاقتصادية من جهة والمشاركة في مكاسب عمليات إعادة الإعمار والإنماء في دول الجوار العربي من جهة أخرى.

العمل مفتاح الأمل. بهما لا سبيل الى الحبوط والقنوط.

 

*نائب ووزير سابق.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى