ثقافة وفنون

المفارقة في الومضة

 

} د. باسل الزين*

ورد في لسان العرب: «فارق الشيء مفارقة وفراقًا: باينه»، وفي قاموس المعاني «مفارقة: إثبات لقول يتناقض مع الرأي الشائع في موضوع ما بالاستناد إلى اعتبار خفيَ على هذا الرأي العام». وغنيّ عن الذكر العدد الهائل من الدراسات التي تناولت مسألة المفارقة في الشعر العربيّ (نذكر على سبيل المثال لا الحصر: الخطيئة والتكفير والكتابة ضدّ الكتابة لعبد الله الغذامي، والمفارقة في الشعر العربي الحديث لناصر شبانة، وجماليات المفارقة في الشعر العربي المعاصر لنوال بن صالح …). ويُعرّف الغذامي المفارقة على أنّها «عمل تحريضيّ، يُحرّض الذات ضدّ الآخر، وهي في الوقت ذاته تحريض للآخر ضد الذات» (الكتابة ضد الكتابة)، ذلك بأنّ «النص الأدبي وجود عائم، فمبدعه يُطلقه في فضاء اللغة سابحًا فيها إلى أن يتناوله القارئ ويأخذ في تقرير حقيقته» (الخطيئة والتكفير)، (راجع في هذا الصدد: النقد المعاصر وقضايا تحليل الخطاب لصليحة سبقاق).

وفي هذا السياق يرى البروفيسور أسامة عبد العزيز أنّ شعرية المفارقة تقوم «بشكل أساسي على التضاد بين المعنى الظاهري والباطني. وكلما اشتد التضاد بينهما، ازدادت حدة المفارقة في النص». ويُضيف في موضع لاحق: «إنّ المفارقة جوهر في الأدب، فهي تعكس وظيفته النهائية التي تقوم على الصراع بين الذات والموضوع، الخارج والداخل، الحياة والموت، المتصوّر والمألوف، الفاني والأزلي، ولأنها تعكس الرؤية المزدوجة في الحياة، فإنها خير ما يمثل الأدبفالمفارقة تخلق توازنًا في الحياة والوجود، فهي نظرة فلسفية للحياة، قبل أن تكون أسلوبًا بلاغيًا، ندرك بها سرّ وجود التنافرات والتناقضات، التي هي جزء من بنية الوجود نفسهإنّ حسّ الشاعر بالمفارقة لا يقتصر على رؤية الأضداد ووصفها في إطار المفارقة، بل في قدرته على إعطائها صورة في الذهن أولاً، ثم مطاردتها في الحياة والواقع. عندها يستطيع أن يتفاعل مع ما يحدث في الواقع ضمن مفهوم المفارقة. ليس كل شاعر يستطيع أن يتلبّس فلسفة المفارقة، فهي ليست لباسًا خارجيًّا، بل فلسفة ونظرة جوهرية للعالم وإذا لم يستغرق الشاعر فيها، ويتشبّع بها، لا يجد فكره وشعره الطريق لها. وحين تصبح المفارقة عند الشاعر فلسفة وسلوكاً وشعوراً يستطيع عندها أن يلتقط أشتات المفارقة في الواقع والكون ويجمعها في منشور اللغة والشعر. لذا يجد الفطن من النقاد والأدباء والمتّتبعين، أن المفارقة لا يقدم عليها إلا الشعراء الكبار ويفرّ منها من كانت تجربته بسيطة ومحدودة. فهي تحتاج إضافة إلى تحديد معالمها والتفاعل معها والشعور بها في الحياة اليومية، قدرة في تجسيدها لغة وشعراً وإحساسًا».

وفي هذا السياق، نتساءل بموضوعيّة: أين تقع الومضة من الاقتباسات السابقة؟ وإذا كان شعراء الومضة قد استعادوا التعريفات والقوالب المفهومية المطروحات فأيّ تجديد يجري الحديث عنه؟

حقيقة الأمر أنّ المفارقة في الومضة لها خصوصيتها فهي تمتاز بجملة خصائص، منها ما يُعمّق التعريفات والطروحات السالفة الذكر، ومنها ما يطرح بعدًا مغايرًا بالتمام نعبّر عنه من خلال الخيال المنقذ واستشراف الحقائق الغائبة.

ومما لا ريب فيه أنّ المفارقة هي كسر لقالب المألوف، وجهد مبذول لتوليد الدهشة عند المتلقي، وطاقة تخييلة هائلة تلمّ شتات الموضوعات وتكثّرها في ثنايا الوجود، ولغة تروم توحيد الداخل الذاتي مع الخارج الموضوعاتي في ضرب من اللُّحمة التي تعبّر عن انعطاء أصيل للوجود بتعيّناته ولا تعيّناته، والذات بانسلاكاتها المتعددة وضروب أوالاتها المختلفة. ومع ذلك، نتساءل كيف يُمكن للحظة مضيئة ومشعّة ترقب تجليًا خاطفًا للوحدة خلف الكثرة، وتروم كشفًا بيّنًا لسطوع خفيّ وانبلاج لامرئيّ أن يتمّ التعبير عنها من خلال استرسال لفظيّ؟ فالعمل الرؤيوي هنا أشبه ما يكون بالقبض على لقطة زمنيّة قصيرة جدًا في فِلم سينمائي يجري عرضه بسرعة فائقة، وهذه اللقطة إذا جرى تجميدها وإبطاء حركتها فقدت كل فعاليتها وافتقدت جميل تأثيراتها وعمق تفلّتها ذلك بأنّ القبض على هذه اللحظة هنا هو عينه التفلّت، والتعبير صنو الصمت. من هذا المنطلق، تأتي الومضة لتعبّر عن المفارقة في أقصى درجات تجليها التي هي الكثافة والسطوع الخفيّ والانبلاج اللامرئيّ والتبدّي المحتجب.

وعلى المقلب الآخر، تلعب المخيّلة دورًا بارزًا في الومضة، فهي لا تُعنى بكسر أنماط الكلام بغية نقل القارئ من حالة وعي إلى حالة وعي مغايرة بقدر ما تُعنى بالكشف عن ماهية الخطاب المحتجب، وتعرّف الذات بوصفها الغائب الأكبر، والمزاوجة، من ثمّ، بين الذات الكاشفة المُستكشَفة والموضوع المحتجب المتبدي. والسبيل الأنجع لبلوغ هذه النقطة من المفارقة هو الدّربة الذاتية على كسر العوائق وإزالة الحواجز التي تجول دون انطلاق المخيّلة في عملها التوليدي والكشفي، أي امتلاك الجرأة على التحرّر من القيود والأغلال المجتمعية والسوقية والدينية واللاهوتية والفكرية والفلسفية والسياسية والعودة إلى نقاء السريرة الشعريّة في رصد العالم وتحولاته وتبيّن الذات وأحوالها من دون الانطلاق من أحكام مسبقة وإرهاصات قَبليّة وتصوّرات بائدة. وبعمليّة قياس بسيطة، نرى أنّ المخيّلة في الومضة في رحلة بحثها عن المفارقة أشبه ما تكون بالطفل النيتشوي. يرى نيتشه في معرض حديثه عن التحولات أنّ «الجمل هو الحيوان الذي يحمل عبء القيم السائدة، أثقال التربية، والأخلاق والثقافة. يحملها في الصحراء، ويتحوّل هناك إلى أسد: يُحطّم التماثيل، يدوس الأثقال، يتولّى نقد كل القيم السائدة. أخيرًا يمتلك الأسد أن يُصبح طفلًا، أي لعبًا وبداية جديدة، خالقًا لقيم جديدة ومبادئ تقويم جديدة». (هكذا تكلّم زرادشت وقراءة دولوز لنيتشه). من هنا، وجب على المخيّلة في الومضة أن تلعب دور الأسد في تحطيم نماذج القول التقليدي، وكسر أنماط العادات الأدبية القائمة، لتصبح قادرة على لعب دور الطفل هذا البريء المتحرّر من جميع القبليات والقادر على تلقف الوجودين الذاتي والموضوعي في أبهى حلة ممكنة، أي بعيدًا عن كلّ تصور سابق.

بهذا المعنى، تغدو المفارقة رحلة بحث عن حقيقة محتجبة ذاتيًا وموضوعيًا. بيد أنّ التحول الأكبر الذي تنشده الومضة هو إغفال الهدف المركزي للمفارقة بالمعنى المتداول، أي حصر التأثير في المتلقي. لا غرو أنّ زعزعة المفاهيم لدى القارئ هو هدف منشود في أي عملية كتابية، لكنّ حصر الهدف بالمتلقي هو إغفال لمصداقية المفارقة على اعتبار أنّ هذه الأخيرة لا تروم اللعب المجاني بالألفاظ أو اللهو العبثيّ بالكلمات، بل تروم استبطان الحقائق المنسية، ونسج علاقات بين مكوّنين وعناصر ذاتية وموضوعية لا علاقة ظاهرة في ما بينها. ورأس القول إنّ التوشيج المنشود في الومضة ليس توشيجًا عبثيًا لاهيًا بل على العكس تمامًا هو توشيج أصيل يعي جيدًا منظورية تعدد الحقائق وتباين مستويات النظر وانرصاف طبقات الكشف.

خلاصة القول إنّ المفارقة في الومضة لها من الخصوصية والخصائص ما يكفي لترسّخ نفسها نوعًا شعريًا جديدًا، وتفتح المجال أمام أنماط أقوال غير مألوفة، وتُعبّد الطريق نحو سبل غير مطروقة.

 

*عضو ملتقى الأدب الوجيز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى