الوطن

الخلافات السياسيّة في مرحلة وطنيّة مشبوهة… جداً

} د. وفيق إبراهيم

السياسة في لبنان لها الاولوية في كل انواع الاتفاقات والصراعات من دون التمييز بين المراحل ومتطلباتها.

هذه سمة أساسية تطغى على السياسة اللبنانية فلا تفرق بين الاستثمار في انتخابات او تحشيد طائفي لاستجلاب قوة او افتعال مشاجرات لتصوير القادة السياسيين وكأنهم حماة الطوائف والبلاد والجالبون لما يحتاجه الناس حتى لو كان في جزر الماوماو.

هذا دأب السياسيين يخترعون إشكالات مسيّسة للتمويه على سطوهم على المال العام بتغطيات من السياسة والسماء والشعبوية.

قد يتسامح المتابع مع هذا النمط المتدني في الاستثمار بما هو سياسي لحماية الزعماء «المقدَّسين» الذين يقدمون انفسهم كحماة لطوائفهم وقبائلهم.

لكن المشكلة ان «التسييس» طغا على كل القضايا في لبنان، من الاقتصاد الى الثقافة والطائفة وصولاً الى شؤون كبرى يتسبب الاقتراب منها بأسلوب سياسي صرف بالإساءة للجانب الوطني من البلاد.

فالتطورات السياسية تفرض في استهلاكها للزمن إنتاج آليات تميّز بين المألوف السياسي الذي يشكل السمة الطاغية للتنافس بين القوى الحزبية والطائفية وبين قضايا لا يجوز معالجتها إلا ببعد وطني صرف لا يجوز التلاعب به أبداً.

هذا هو الطابع العام الذي تلتزم به كل الدول في العالم من دون أي استثناء، وبما فيها الكيان الاسرائيلي المحتل، فالخروج عن «الوطني» يثير الشبهة اولاً ويدفع المرتكب الى الانهيار السياسي.

إلا ان مشكلة لبنان متجذرة في اختلاف اللبنانيين على مفهوم الوطن، إلى أن يتبين وبالاستدلال انه المذهب والطائفة والزعيم والمنطقة. هذه السمات هي الوطن الحقيقي للبنانيين بما يفرض على كل لبناني تسييس مذهبه وطائفته وإمكانات منطقته لنصرة الزعيم الذي يختلس بهذه الطريقة صلاحيات الوطن والدولة والنظام وامكانات الغيب.

فتستولي السياسة على كل انواع التنافس الداخلي والخارجي.

وبما أن لهذا «الزعيم» تغطية خارجية من الاقليم المباشر او من وراء البحار، يصبح القائد الداخلي ممثلاً للخارج الذي يصبح وطناً فعلياً لمؤيديه، فالسعودية مثلاً نموذج مقدس للتطور والوطنية عند مؤيدي الحريرية السياسية، وكيف لا وهي التي وفرت للمرحوم رفيق الحريري فرصة الإثراء من خلال العمل على الأراضي السعودية وكذلك حال العلاقة مع فرنسا منذ استعمارها للبنان في اواخر القرن التاسع عشر فأصبحت «أم الدنيا عموم»، كما تقول الاهازيج اللبنانية التي تضيف «اعتزوا يا لبنانيين».

هناك أيضاً نموذج الوزير السابق وليد جنبلاط الذي كشف أن حلمه هو العمل في نيويورك حتى ولو في قطاع النظافة.

هنا يجب الإقرار ان الوطن عند اللبنانيين هو الطائفة المتجسدة في زعيمها وبلد التغطية الخارجية، فيدفعنا الاعتدال الى الجهر بأن هناك وطناً مارونياً مسيحياً وآخر درزياً وثالثاً شيعياً ورابعاً سنياً وخامساً للاقليات؛ وعواصم هذه الاوطان هي المناطق الاساسية لهذه الطوائف في الجنوب والشوف «وبيروت طرابلس» وجبل لبنان الشمالي وزحلة والمتن وذلك بالشراكة مع باريس وطهران والرياض وموسكو ونيويورك وواشنطن وهكذا دواليك.

الوطن اذاً عند اللبنانيين هو الطائفة التي تزداد بأساً وهيمنة على الملتزمين بها، بواسطة استيلاء سياسييها على موارد الدولة في الادارة والمال العام.

بما يسمح لأي مراقب بالجهر ان لبنان الوطن موجود فقط في شعر سعيد عقل ومخترعي روايات لا يعترف بها التاريخ.

كما أن دولة لبنان لم تعمل تاريخياً على تأكيد فكرة الوطن بين سكانها بشكل دستوري بل ذهبت الى تفريقهم دستورياً ايضاً بإقرار صيغة تحاصص دستورية أخرى ميثاقية لا يستطيع اللبناني تجاوزها حتى بحروب اهلية بسبب التقاطعات الحادة بين مكونات الداخل وتغطياتها الخارجية الحامية للادوار السياسية للطوائف.

لكن ما يجري اليوم من تداعيات جائحة الكورونا على الإنسانية بأسرها وتصاعد الضغط الاسرائيليالأميركي على لبنان، تفرض صحوة التقليد اللبناني من عبثيته وانتهازيته لأسباب عدة:

اولها أن الضغوط الحالية من دون مجابهة داخلية لها تدفع نحو تدمير الكيان السياسي اللبناني. وهذا يلغي إمكانية استئثار زعامة طائفية بغنائم من الداخل أكثر من زعامات منافسة من طوائف اخرى.

ثانياً: لا تمتلك اي طائفة القدرة على التعامل مع المخاطر بمفردها، فتجد نفسها محتاجة للائتلاف مع الطوائف الأخرى وأخيراً فإن التسويات التي يرعاها الخارج في الإقليم تأتي دائماً على حساب الضعفاء. وهذا واضح في الدولة السورية التي رفضت المهادنة وأرغمت الخارج على وقف تآمره عليها، ما ادخل الصراع في سورية من مرحلة تدمير الكيان والدولة الى المستوى السياسي الداخلي.

فهل يتمكن لبنان من امتلاك عناصر قوة تحميه كوطن لأهله؟

هذا يتطلب اتفاق القوى السياسية اللبنانية على ثلاثة امور: مجابهة الكورونا من دون تحايلات تقليدية وكمائن، والاتفاق على افضل السبل لتحصين مقاومة اللبنانيين ثقافياً وصحياً واقتصادياً، ثانياً: الإعلان ان اسرائيل عدو مطلق للبنان في وحدته الداخلية وسيادته المنتهكة وثرواته البحرية والبرية.

وأخيراً تأييد الحكومة في مشروعها الاقتصادي لمعالجة انهيار بنيوي ضخم تسببت به القوى السياسية التي تهاجمها الآن.

لذلك فإن إنقاذ لبنان رهن بضغط القوى السياسية اللبنانية على تغطياتها الخارجية، خصوصاً الاميركية والسعودية والفرنسية لدعم حكومة حسان دياب في مشروعها الاقتصادي الانقاذي، وإلا فإن لا مكان لأحد في بلد قابل لان يتصدع بسبب الطائفية السياسية لقواه الاساسية.

فهل هذا ممكن؟

هناك من يطالب بأن نصحو من النوم مقابل آخرين يؤكدون بأن القوى المؤيدة للبنان الوطن كفيلة بالبحث عن عناصر جديدة لإنقاذ لبنان حتى لو كانت في الصين وسورية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى