أولى

هل سقط وقف إطلاق النار في إدلب؟ وماذا بعد؟

العميد الركن د. أمين محمد حطيط*

 

. لم نكن نتوقع أن تنفذ تركيا بروتوكول موسكو الإضافي الذي «منحها» هدية كبرى هي وقف إطلاق النار في ريف إدلب وتجميد العمليات القتالية على طرفي خطوط التماس التي رسمتها بنادق رجال الجيش العربي السوري وأقدامهم التي لو تابعت الحركة القتالية لكانت وصلت إلى الحدود مع تركيا وطوت صفحة الإرهاب في إدلب وريفها. فتركيا امتهنت منذ أن فتح لها باب استنة وأعطيت فرصة عضوية المثلث الراعي للمسألة السورية ميدانياً، ومن ثم سياسياً، سياسة النكول والابتزاز وتلمّس الطرق إلى حيث يؤكل الكتف بأقل جهد ممكن.

أما روسيا التي منحت تركيا هذه الهدية العظيمة بعد ان كانت وجهت عبر رئيسها بوتين لأردغان رسائل المهانة والإذلال في قصر الكرملين في موسكو، فقد ظنت ان الرسائل القاسية معطوفة على العطية التي حملها لها بروتوكول موسكو من شأنها أن تغيّر السلوك التركي في سورية وأن تتجه تركيا بشكل جدي هذه المرة ليس إلى تنفيذ بروتوكول موسكو فحسب، بل وكل الاتفاقات السابقة بدءاً من مخرجات استنة وصولاً لاتفاق سوتشي. وهذا يعني بالفهم الروسي توقف تركيا عن السير بمشروعها الخاص في سورية والذي يشمل اقتطاع أرض وتهجير سكان وتغيير ديمغرافي للمناطق الحدودية ووضع اليد على ثروات طبيعية وعرقلة الحركة الاقتصادية والصناعية في الشمال السوري. وكلها أمور تستحق بالفهم الروسي التضحية لضمان حل يحفظ الحقوق السورية دون ان يغضب تركيا او يستفزها.

بيد ان الميدان السوري شهد بعد بروتوكول موسكو مناورات تركية وتذاكياً من نوع جديد، حيث عملت تركيا هذه المرة باستراتيجية الباطن والظاهر المتناقضين او المتعاكسين، ففي خطابها مع الروسي كانت تؤكد المرة تلو المرة على التزامها ببروتوكول موسكو بما في ذلك طي صفحة المطالب بتراجع الجيش السوري بعيداً عن الخطوط التي وصل اليها إثر انتصاراته في عملياته العسكرية الأخيرة، كما وفتح الـ M4 الذي يربط حلب باللاذقية وضمان أمن الحركة عليه بتسيير الدوريات المشتركة الروسية التركية والسير قدماً بتفكيك الجماعات الإرهابية المسلحة المناهضة للحل السياسي، ومن جهة ثانية كانت توجّه جبهة النصرة وغيرها من الإرهابيين المتطرفين من تركمان وإيغور وسواهم لقطع طريق M4 ومنع تسيير الدوريات المشتركة عليها مع ضمان عدم استعمال القوة ضدهم. وفي النتيجة ربحت تركيا بـ»تذاكيها» وأبقت الطريق مقطوعة وجاءت الأيام بعد ذلك لتغيّبها عن جدول الأعمال المشترك لروسيا وتركيا.

لكن تركيا لم تكتف بما حصلت عليها، بل قادها غدرها إلى خرق وقف إطلاق النار ومهاجمة الجيش العربي السوري في سهل الغاب عبر تنظيمات إرهابية متطرفة جلها يعمل بأوامر المخابرات التركية ما يثبت أن تركيا مستمرة في مشروعها الخاص الذي لم تتراجع عنه، حيث  لا يوجد أي دليل او أي قرينة تشير إلى هذا التراجع او توحي به، لا بالعكس فإن كل ما تقوم به تركيا ميدانياً يثبت استمرارها على السير قدماً فيه. وهي إذا توقفت فترة فإنما يكون توقفها لعائق ميداني لا علاقة له لا من قريب او بعيد بقرار تركي استراتيجي او مراجعة للسياسة التركية في سورية.

شنّ الهجوم الإرهابي في سهل الغاب شمالي غربي حماه، وإسقاط قرار وقف إطلاق النار عملياً وتمكّن المهاجمون من السيطرة على مساحة جنوبي خط التماس القائم (رغم أنها صغيرة ومحدودة) معطوفة على الإخفاق في فتح طريق الـ M4  مواكبة مع التصعيد التركي ضد الحكومة السورية، كلها وقائع وسلوكيات تدعو إلى وقف الرهان على سياسة تركية يمكن أن تكون صادقة ونظيفة ووفية لتعهداتها وتستحق أن يكون لها شرف الانضواء في منظومة إقليمية دولية لرعاية الحل في سورية.

وإذا كانت الحسابات الروسية تحول دون الانتقال في العلاقة مع تركيا من العمل المشترك إلى المواجهة والعداء الآن، وأن إيران تجد ان حسن التعامل مع تركيا يروّضها ويقلل الخسائر التي يفرضها الحل الذي لا تشارك فيه تركيا، فإن الحسابات السورية تبقى مقروءة من منظار أخر يوحي بأن سورية لا تستطيع أن تنتظر إلى ما شاء الله لإنجاز تحرير إدلب ووضع حد للإرهاب العالمي فيه، ولا تستطيع أن تعطي وقتاً إضافياً لتركيا لتعميق مشروعها الخاص في سورية بشكل يصعب معالجة آثاره ومفاعيله، ولذلك نرى أن الوقت الآن لا يلعب لصالح سورية التي تحتاج بإلحاح لطي صفحة إدلب والتفرغ لصفحة الشرقي الشمالي السوري حيث الاحتلال الأميركي وظاهرة الانفصال الكردي وتلاعب اليد التركية. وهي حالة مركبة فيها قدر من التعقيد تُفضل معالجتها بالتفرغ الميداني والسياسي حتى لا تتزاحم المؤثرات فتعرقل الحل.

لكل ذلك يبدو أن سورية ستجد نفسها وقريباً جداً مضطرة لاستئناف القتال والعمل باستراتيجيتها الناجعة القائمة على التحرير بالوثبات المتتالية، وهي الاستراتيجية التي مكّنتها من تحرير أكثر 5000 كلم 2 في ريفي حلب وحماه وأدت إلى السيطرة على طريق الـ M5  وأظهرت الوهن التركي في مواجهة الجيش العربي السوري وحلفائه وأجبرت أردوغان على أن يستغيث ببوتين استجداء لوقف إطلاق النار، أما روسيا فتجد نفسها مضطرة لأكثر من سبب لمواصلة دعم وإسناد الجيش العربي السوري في عملياته تلك، خاصة أنها فهمت مغزى الزيارة الإيرانية لدمشق مؤخراً.

فالسلوكيّات التركية في سورية باتت تبرّر العودة السورية لاستئناف التحرير بالقوة واجتثاث الإرهاب بكل مسمّياته وأشكاله من إدلب وتُضاف إليها الظروف الإقليمية والدولية هذه المرة التي تعزز هذا الاتجاه وتؤكد عليه إذ إنها اليوم في أفضل الأحوال التي تساعد على إطلاق هذه العمليات. فتركيا تحت وطأة ضغوط وبائية وسياسية واقتصادية داخلية فضلاً عن غرقها وانشغالها في ليبيا ما يمنعها من الدخول في مواجهة واسعة في سورية، وأميركا تنفذ في المنطقة إعادة انتشار عسكري، صحيح أنه لن يصل إلى الانسحاب منها، لكنه يشير إلى خفض في قواتها المنتشرة حالياً وأوروبا مشغولة عن العالم بوباء كورونا الذي لم تسيطر عليه حتى الآن. كل ذلك لا يطرح السؤال هل سيتخذ قرار تحرير إدلب بالقوة العسكرية، بل متى سيوضع هذا القرار موضع التنفيذ؟ الذي نتوقعه قريباً.

 

* أستاذ جامعيباحـث استراتيجي.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى