أولى

البحث الاجتماعيّ في زمن كورونا!!

 د. محمد سيد أحمد*

 

جمعتني صدفة هذا الأسبوع بأحد أبرز علماء الاجتماع الشبان في وطننا العربي، باحث وأكاديمي متميّز قرر منذ فترة بعيدة أن تكون أبحاثه ودراساته ليست مجرد أوراق توضع على أرفف المكتبات، فعمل استشارياً لعدد من الهيئات المحلية والإقليمية والدولية المشغولة برسم السياسات الاجتماعية، ومؤخراً التحق بوظيفة تنفيذية مرموقة بالقرب من دوائر صنع القرار، وأصبح أحد راسمي السياسات الاجتماعية في بلاده.

وأثناء اللقاء دار حوار مطول حول أهمية البحث الاجتماعي، والدور الذي يجب أن يلعبه في رسم السياسات الاجتماعية، وفي عملية صناعة القرار داخل مجتمعاتنا العربية.

وخلال الحوار تطرقنا للحديث عن أزمة كورونا والدور المنوط بالبحث الاجتماعي للمساهمة فيها، وهنا وجدته ينتفض فجأة ويلتفت إلي مستغرباً، فبادرته بالسؤال ماذا بك؟ هل أخطأت في شيء؟ فكانت الإجابة بالقطع أخطأت ماذا نعرف عن كورونا حتى نُسرع بالحكم عليها ونقوم بعمل أبحاث ودراسات عنها، لقد لاحظت أن هناك عدداً كبيراً من الباحثين المراهقين علمياً الذين يبحثون عن السبق ليس أكثر ليقول كل منهم في ما بعد أنه قد سبق الجميع في دراسة الظاهرة، فقد قام البعض بالتسرع وإعداد استمارات بحث لجمع مادة ميدانية حول تصورات الناس لكورونا، وهناك من حاول القفز للبحث عن الأسباب، وهناك من تهور للبحث عن الآثار الاجتماعية والاقتصادية التي ستحدثها كورونا، وهناك من طلب من طلابه إعداد رسائل ماجستير ودكتوراه تحت عناوين مختلفة حول كورونا. وهذا بالطبع وعي زائف حول مفهوم البحث العلمي، فهل مهمة البحث العلمي الوصول لنتائج عبارة عن تصورات للناس العاديين حول الظاهرة؟

وعندما هممت بالدفاع وتوضيح الأمر وأن هذا شيء محمود في كل الأحوال، باغتني بالسؤال هل قامت جهة من الجهات المسؤولة في أي دولة بتكليف هؤلاء الباحثين الذين يعملون في مؤسسات بحثية وأكاديمية بإجراء مثل هذه البحوث؟ وهل رصدت لهم ميزانيات لإجراء بحوثهم؟ وهل هناك إمكانية لإجراء بحوث ميدانية معتبرة دون تمويل؟ وهل استطلاع رأي الناس حول الظاهرة عبر عينات صغيرة وبالتليفون يمكن أن يصل لنتائج حقيقية؟ وأمام تساؤلاته المتلاحقة وجدت نفسي أردد خلفه كلمة لا، لكن وكعادتي حاولت الدفاع عنهم والبحث عن مبررات لهم حتى لا يكون الحوار مونولوج من طرف واحد، فوجدته يداهمني بسؤال جديد ألست أنت باحثاً مثلهم لماذا لم تقم بإعداد بحث من هذه النوعية؟ خاصة أنك مشغول منذ اللحظة الأولى بمحاولة فهم وتفسير الظاهرة، وأتابع كل لقاءاتك التلفزيونية حول الموضوع وكذلك مقالك الأسبوعي الذي أفردته منذ بداية الأزمة للحديث عن كورونا؟ 

وقبل أن أهم بالإجابة وجدته يوفر علي عناء الحديث فأردف يقول لأن صناع السياسات الاجتماعية في بلادك لم يكلفوك بمثل هذا البحث، ولم تتصل بك حتى الآن هيئة أو مؤسسة بحثية معتبرة سواء كانت محلية أو إقليمية أو دولية للاستعانة بك في إعداد مثل هذا البحث. وهنا وجدت نفسي أباغته بسؤال حتى أوقف هجومه هل صناع القرار في وطننا العربي وأنت الآن داخل دائرة صنع القرار لا يهتمون بمثل هذه البحوث على الرغم من أهميتها؟ هنا تحوّلت قسمات وجهه التي كانت عابسة طوال الوقت وبرزت ابتسامته المعهودة ولحقها بضحكة عالية وأردف يقول بالطبع لا، لكن المسألة تحتاج لبعض الوقت.

وقبل أن أباغته بسؤال جديد وجدته يسألني عن أحداث الربيع العربي المزعوم في تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية، كم من الدراسات والأبحاث التى خرجت منذ اندلاع الأحداث في هذه الأقطار العربية؟ ولباحثين وعلماء كبار لهم وزنهم في مجال البحث الاجتماعي في الوطن العربي؟ فكانت إجابتي كماً هائلاً من البحوث والدراسات الأكاديمية صدرت عبر العقد الأخير. وقبل أن أسترسل في الحديث باغتني بسؤال جديد، ما هو حكمهم على هذه الأحداث هل اعتبروها ثورة أم لا؟ وكانت إجابتي أن غالبيتهم وصف ما حدث أنه ثورة وهناك دراسات صدرت أثناء الأحداث ذاتها.

هنا وجدته يقول أنت الآن مكلف من جهة إقليمية معتبرة بإجراء بحث حول المردود الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي لأحداث الربيع العربي في تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية عبر دراسة ميدانيّة، فما هو تقييمك للتراث البحثي الذي تم إنتاجه عبر السنوات الماضية، والذي تسرّع في إجرائه هؤلاء الباحثون؟ وبعد تفكير عميق كانت إجابتي أنه إذا اتفقنا على تعريف الثورة بأنها «إحداث تغيير جذري إيجابي في بنية المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية» فإن ما حدث لا يمكن توصيفه بالثورة لأن المردود الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي لأحداث الربيع العربي كانت أغلبها سلبية على بنية مجتمعاتنا العربية.

 هذا إلى جانب اكتشافنا فيما بعد أن هناك مخططات ومؤامرات دولية كانت تحاك ضد مجتمعاتنا، وبما أن الثورات لا يحكم عليها إلا بنتائجها فإن أحداث الربيع العربي ليست ثورات، وكل مَن درسها وأصدر حكماً عليها بأنها ثورة فقد ضلّ مسعاه. هنا وجدته يقول ليس هذا وفقط بل إنهم سواء بوعي أو بدون وعي ساهموا بتسرعهم في المشاركة في المؤامرة ضد بلدانهم بتبني وجهة نظر أعداء أوطاننا الذين وضعوا هذه المخططات تحت مسمّى «الفوضى الخلاقة» لتقسيم وتفتيت وتدمير مجتمعاتنا من الداخل.

وقبل أن أرد وجدته يعود مرة أخرى لأزمة كورونا ويقول يا صديقي لا بد من التروي وعدم التعجل في إجراء بحوث ودراسات حول هذه الظاهرة، حتى لا تكون النتيجة مثل أحداث الربيع العربي دراسات وبحوث نخجل من نتائجها ونصف من قاموا بها على الرغم من أسمائهم الرنانة بأنهم مراهقون بحثياً، فهناك أسرار كبرى حول الأزمة الكونية الراهنة لم تكشف بعد، فالغموض يحيط بنا من كل الاتجاهات، لذلك لا بدّ من التروي وعدم التعجل والصبر حتى تكلفنا دوائر صنع القرار بالبدء في البحث والدراسة.

 وهذا لا يعني أن نتوقف عن التفكير علينا أن نفكر ونجتهد دون تسرّع في إصدار أحكام على أحداث لم تنضج بعد، فالمتسرّعون قد تكون عزلتهم بسبب الوباء هى التي دفعتهم للتفكير في إجراء مثل هذه البحوث والدراسات بمبادرات فردية منهم لشغل وقت فراغهم، وحتى يمنحوا أنفسهم صفة السبق، أما الباحثون الحقيقيون فعليهم أن يصبروا حتى ينضج الموقف وتتكشف بعض الأسرار ويزول بعض الغموض، حتى تأتي بحوثهم بنتائج تساعد صانع القرار في رسم السياسات الاجتماعية التي تعود بالفائدة على مجتمعاتنا.

وقبل أن ننهي الحوار وجدته يسألني لماذا لا يكون مقالك هذا الأسبوع عن هذا الموضوع؟ وهل تجد حرجاً في ذلك من قبل بعض زملائك الذين تسرعوا في البحث والدراسة؟ فكانت إجابتي بالنفي والتأكيد أنه يمكنني أن أكتب حول الموضوع لينتبه الزملاء الذين بادروا بالبحث والدراسة، ولينتبه صناع السياسات الاجتماعية لأهمية البحث الاجتماعي حول كورونا، وتشكيل فرق بحثية لعمل مرصد اجتماعي لكورونا داخل كل بلد عربي تكون مهمته متابعة يومية ورصد للأحداث حتى ينضج الموقف ونتمكن من إجراء بحوث ودراسات معتبرة. اللهم بلغت اللهم فاشهد.            

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى