أولى

التطبيع مضار بلا منافع(1)

بشارة مرهج _

 

 

تعتقد بعض الأنظمة والجماعات في بلادنا العربية أن قضية المقاطعة العربية للكيان الصهيوني العنصري الاستيطاني قضية ثانوية لا تقدّم ولا تؤخّر في عملية الصراع العربي الصهيوني، وليس لها أثر على الكيان المحتل، وانما تعطي إنطباعاً سيئاً عن سياساتنا وتترك أثراً سلبياً على سمعتنا الجماعية بزعم أن العالم يعتبر المقاطعة نوعاً من حصار لكيان منفرد يعيش داخل عربي واسع ويستحق بالتالي، رغم كل شيء، أن يتم التعامل معه بإيجابية باعتباره أمراً واقعاً ومعترفاً به على الصعيد الدولي.

وإذا سلّمنا جدلاً بهذا المنطق الذي يجافي الحقيقة فلماذا تستخدم السلطات الإسرائيلية اذن أسلوب المقاطعة والحجر والحصار على المواطنين الفلسطينيين في الوقت الذي تطالب به السلطات العربية برفع سيف المقاطعة عن كيانها.

ثم اذا كان هذا ما تطالب به واشنطن وتسعى إليه بنشاط وإصرار فلماذا تعتبر بدورها المقاطعة من أهم الأسلحة التي تستخدمها للضغط على أفراد وجماعات ودول لتغيير مواقفهم والخضوع لإرادتها؟ لن ندخل عميقاً في تحليل هذه الظاهرة العنصرية التي تسمح بموجبها الأنظمة العدوانية التفرد بمعاملة الغير والنأي عن مبدأ التعامل بالمثل. فهذه الأنظمة لا تؤمن بالمساواة بين الشعوب ولذلك من العبث، وهم على هذا المعتقد، أن يسعى المرء لخطب ودهم أو  التعامل معهم على أساس القانون الدولي، لأن كل ذلك مصيره السخرية أو الرفض. وهذا ما يجب الانتباه اليه من قبل المستهترين بمبدأ المقاطعة العربية لأن التجربة علّمتنا خلال المرحلة الماضية أن كل تنازل يقومون به تجاه الكيان الصهيوني او واشنطن يستتبعه طلب آخر بالتنازل حتى يصل المرء الى حالة عجز مطبق. واذا كان هذا الأمر ممكناً في حالات أفراد لا يقدرون عواقب الأمور ويسعون الى حتفهم بأيديهم، فإن ذلك لا يجوز مطلقاً عندما تكون مصلحة الشعوب والأوطان في الميزان، حيث لا يملك لأحد ان يعطي لنفسه الحق في التنازل عما هو مسؤول عن حمايته والحفاظ عليه إرثاً لمن بعده.

ويجدر بكل من يتحمل مسؤولية على الصعيد العربي أن يتذكر أن المسألة ليست مسألة نيات او نوايا وإنما هي مسألة وقائع وحقائق مادية ومعنوية لا يجوز التهاون فيها او التلاعب بها بسبب ضغوط هي في صلب العلاقات الدولية.

فالكيان الصهيوني بطبيعته كيان احتلالي توسعي وبالتالي هو كيان عدوانيّ على المستوى الفلسطيني كما العربي كما الإقليمي، وهو لن يخرج من جلده بـأي حال من الأحوال ليصبح كياناً سلمياً او مسالماً يحرص على الآخر ويحترم حقوقه. وبسبب هذه العدوانيّة شهدت المنطقة حروباً تسبّب بها هذا الكيان الذي يحتلّ أراضي عربية في سورية ولبنان والأردن ويرفض حتى الآن الانسحاب منها بحسب قرارات دولية معروفة ومنسية في آن، وإنما يعمل على ضمها وتهويدها مع أن أطروحته الأساسية كما يزعم هي الاستيلاء على فلسطين التاريخية أو أرضإسرائيلوالتي لا تشمل حكماً أي ارض عربية أخرى.

وهذا العدو الذي يتقدم ويتراجع حسب موازين القوى الحاكمة في المنطقة لم يتراجع من سينا أو جنوب لبنان أو غزة لرغبته في السلام وإنما انسحب منها مرغماً؛ مما يدلّ على أن خطره قائم وكامن وممكن أن يتمدد في أية لحظة تسمح بها أوضاعه والظروف المحيطة بها. ولذلك فإن أي سياسة تقارب او تعايش مع هذا الكيان الخارج على الشرعيّة الدوليّة والرافض لقوانينها وقراراتها إنما تصبّ في مصلحته، لأنها تمده بالشرعية والقوة وتتيح به مجالاً واسعاً للمناورة والتضييق المستمر على الشعب الفلسطيني وصولاً إلى اجتثاثه من أرضه وحرمانه من أبسط حقوقه الوجودية والتاريخية بحسب الخطة التي يجري تطبيقها تباعاً في القدس والأراضي الفلسطينية كافة.

واذا كانت بعض الجهات ترى أن العرب  يجب أن يتبعوا السياسة الواقعية الملتزمة بقرارات الأمم المتحدة لتأمين حقوق الشعب الفلسطيني وتحقيق الأمن والسلم الدوليين فنذكرها بأن هذه السياسة كانت متّبعة من قبل الأنظمة العربية طيلة الفترة الماضية رغم أنها لم تؤد الى أي نتيجة إيجابيّة وإنما أعطت الكيان الصهيوني الفرصة تلو الأخرى لثبيت احتلاله للأراضي الفلسطينية كما للأراضي السورية واللبنانية المحتلة إذ عمل على بناء المستوطنات وتهجير السكان الأصليين والاستيلاء على بيوتهم وأراضيهم ومياههم ومقدّساتهم، من دون حسيب او رقيب خلا بيانات الاستنكار التي تصدر بشكل آلي من بعض المؤسسات الدولية لذر الرماد في العيون ليس إلا، بدليل وصول حركة الاستيطان الصهيوني إلى ذروتها في القدس التي يجري تزوير هويتها العربية وتحويلها الى مدينة يهودية خالصة، رغم وجود مئة صرح دينيّ فيها بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين، ورغم خلوها أصلاً من أي صرح يهودي يذكر.

فإذا كانت القدس بمكانتها وعظمتها وأبعادها الدولية والإنسانية لا تستأثر بالاهتمام الكافي من قبل الفاتيكان والمراكز الدينية الكبرى على امتداد العالم، فكيف بالنسبة للأماكن الأخرى التي تفتقر الى هذه الهالة الدينية الجامعة؟! لذلك لا بد من اتباع سياسة الاعتماد على النفس لمواجهة كل الوقائع والمتغيرات.

وفي هذا الإطار من المفيد أن يعود قادة السياسة في العالم العربي الى مذكرات هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق ومذكرات الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون ليكتشفوا أهمية هذا الموضوع لدى الإدارة الأميركية، حيث يعترف الاثنان بأهمية الموضوع وخطورته عندما يؤكدان على ان المقاطعة العربية لـإسرائيليجب التخلص منها لأنها بمثابة كابوس يقض مضاجعإسرائيلويكاد يصيبها بالاختناق.

فهل بعد كل ذلك ثمة من يعتقد بأن التطبيع مفيد لفلسطين والأمة العربية؟!

(1) مداخلة ألقيت في الملتقى العربي الدوليالافتراضيلمناهضة التطبيع مع العدو الصهيوني.

*نائب ووزير سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى