أخيرة

النسر الشامي وشهداء الشام*

 

} يكتبها الياس عشي

ــ تهيّأ النسر الرابض في الذروة من جبال الشام ليقوم، كما العادة، بجولته الصباحية، خوفاً من طائر غريب يدخل فضاءه، ويصادر ياسمينه، ويغتال فراشاته، ويعتدي على حرمة بيته، ويطلق رصاصة الرحمة على الأشياء الجميلة التي تعلن حضورها كلما أشرقت الشمس؛ حتى إذا انتهى النسر من جولته عاد إلى مربضه استعداداً ليوم مشرق آخر.

هكذا بدأ الراوي حكايته لأجيال لم تكن قد ولدت بعد. التفوا حوله. ألحّوا عليه أن يروي لهم بعضاً ممّا تختزنه ذاكرته من أحداث شهدتها سورية على مرّ العصور.

 قال الراوي:

ــ وفي إحدى المرّات، وكانت الشام في أبهى حللها، أصيب النسر الشامي بجرح في واحد من جناحيه. كانت معركة قاسية خاضها مع طيور جارحة جاءت جماعات جماعات من كلّ مكان. وعلى الرغم من فداحة الجرح لم تهن للنسر عزيمة. لم يتهاوَ. لم يفقد بصره ولا بصيرته. لم يتنازل عن كبريائه ولا عن وقفات عزّه. ظلّ وحيداً يقاتل إلى أن اندحر المعتدون، ففرّ من فرّ، ومات من مات، وعادت السماء السورية إلى صفائها.

 – وهل مات النسر؟ سأله واحد من الفتيان.

 – النسر الشاميّ لا يموت يا بنيّ، إنه منذ سبعة آلاف عام يجوب سماءنا، ويحرسها بعينيه، ويبارك الذين استشهدوا كي تبقى الأرض أرضهم، والعلم علمهم. النسر الشامي هنا وهناك وهنالكفي قاسيون. في الجولان. في جبل الأقرع يستعدّ لاستقبال اسكندرون بعد أن طال غيابها. في فلسطين يغتسل بماء وردها ودموع أمّهات غزّة.

 – وما السرّ في ديمومته؟ سأل صغير آخر.

 – إنهم الشهداء يا بنيّ. «إنهم أكرم من في الدنيا، وأنبل بني البشر». كلّ شهيد من شهداء الشام صار جزءاً من خوافي النسر وقوادمه، فيقوى جناحاه، ويزداد إصراراً على البقاء. كلً شهيد من شهداء سورية، على مِساحة الزمن كلًه، صار جزءاً من ذاكرته التي لا تنسى، ومن سمائه المحظورة على الغرباء والدخلاء والعملاء وضعاف النفوس.

 وسكت الراوي عن الكلام، وتفرّق الفتيان من حوله، وعاد النسر إلى جولاته الصباحية يرشّ العطر على شقائق النعمان.

* من مؤلفي الأخير «الرقص في عيد البربارة على الطريقة الأمريكية».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى