الوطن

النظام التقليديّ يستحضر «السلاح» السحري الأقوى!

} د. وفيق إبراهيم

أخيراً لجأ النظام الطائفي الى وصفته السحرية التاريخية التي تزيل من أمامه كل المعوقات وتزوّده شحنات قوية من عمر مديد مسموم.

كانت الأمور تذهب نحو تفلّت واسع نتيجة للانهيار الاقتصادي والعجز عن احتوائه او حتى الوصول الى مرحلة مراوحة. فحكومة حسان دياب لا تحمل حلاً فورياً جاهزاً بل تعمل للتمهيد له خارجياً وداخلياً، لكنها وجدت أن الصراع الأميركي الخليجي الإيراني السوري لم يتوصل حتى الآن الى هدنة على غرار ما فعله في العراق.

كما ان الغوث الاقتصادي من مؤتمرات سيدر وصندوق النقد الدولي قد يتأخر بعض الوقت. واذا اسرع فلن يحمل اكثر من مسكنات من قروض لا تنفع للخلاص من مشنقة الانهيار الاقتصادي.

فحاول إحداث مسرحيات سياسية هدفها تقسيم الجياع من اللبنانيين الى افرقاء متنافسين وتابعين لقوى سياسية متنافسة. إنما على التحاصص فقط بيد ان هذه «المعزوفات» التقليدية لم تعد تثير اهتمام اللبنانيين من مختلف الفئات. فأصبح ما يعنيهم هو الطعام والجوع والفقر والبطالة التي تصيب حالياً خمسين بالمئة من شباب لبنان. والمتوقع ارتفاعها الى ثمانين في المئة بعد شهر واحد إذا استمر الاستنفار العام او لم يجد قسم كبير من هؤلاء حلاً لبطالتهم وجوعهم.

بذلك لم تشكل الحكومة الجديدة السحر المطلوب. ولم تنفع الميليشيات والاحزاب والصدامات وعروض القوة في وقف الانهيار.

وبما أن اللبنانيين يتحيّنون الفرصة انما بعد الانحسار النسبي لجائحة الكورونا للعودة الى الشارع انما بقوة شديدة هذه المرة.

فكان لزاماً على الأحزاب التقليدية إخراج «أرنبها الكبير السحري» في معركتها بالاستعمال التدريجي لأسلحتها في مواجهة أخطر أزمة يمر بها النظام التقليدي اللبناني منذ تأسيس شرعنة لبنان الطائفي المستقل عن فرنسا في 1948.

يجب هنا الاعتراف بأن الانتفاضة اللبنانية الحالية ليست على مستوى إسقاط هذا النظام، لكنها تهرول نحو التشكل كحركة شعبية واسعة بإمكانها إنتاج معادلة سياسية صالحة للحكم بمفهوم افضل من النظام الطائفي. وهذا يتطلب وقتاً وتركيب الظروف الموآتية للتحرك الجماهيري الكبير.

الملاحظ اذاً أن هناك اسباباً خارجية داخلية تمنع هذا النظام من استعمال الجيش والأمن لقمع الناس. فهذا امر لم يعد بالإمكان تمريره خوفاً من إعلام دولي يتربص بكل ما هو استثنائي واعلام عربي واسلامي حاضر لاتهام ايران بكل شيء.

كما ان هذا القمع المفترض لن يكون إلا للظروف التي يحتاجها اهل الانتفاضة لتوسيع تأييدهم الشعبي وتنظيم تيار جارف.

هنا تكمن المشكلة فأين الحل الملائم لها؟

استحضر النظام الطائفي واحدة من أقوى أوراقه السحرية القادرة على جذب الناس من دائرة اي انتفاضة او معارضة او معظمها على الأقل. ولها ايضاً قدرة اعادة نصب الخلافات بين ابناء الطوائف.

هؤلاء هم الرؤساء الروحيّون للمذاهب من المفتين عند الشيعة والسنة ومشايخ العقل عند الدروز والبطاركة عند الموارنة والمطارنة عند الكاثوليك والارثوذكس، هؤلاء هبوا علناً بذريعة ظاهرة وأخرى كامنة، الاولى مجاهرتهم بالمطالبة بمواقع وظيفية معينة لأبناء مذاهبهم وصلت الى حدود الإصرار على اسماء بعينها. اما الثانية المخفية، فهي اعادة دعم وترسيخ النظام الطائفي اللبناني باعتماد الاسلوب التقليدي في ضخ شحنات مذهبية لإعادة ضبط الناس في أطرها الطائفية وبالتالي ضمن عصبياتها السياسية المذهبية.

وهذا أمر يحتاج الى رفع الحرارة الطائفية عند اللبنانيين وذلك عبر صراع المذاهب على التعيينات ومواقع معامل الكهرباء والآبار المقترحة للتنقيب عن النفط والغاز.

لقد أدرك هذا النمط من التحشيد مرحلة إطلاق شائعات ان المعامل الكهربائية التي لا تزال في طور الشائعات هي مسيحية في سلعاتا ودير عمار وشيعية في الزهراني وسنية في الجية وهكذا دواليك. كما أن البلوك رقم 4 للتفتيش عن النفط قبالة ساحل جبل لبنان هو مسيحي ماروني في حين أن البلوك رقم 9 في الجنوب هو شيعي. فيما يتحدثون عن بلوك سني قرب الحدود المائية مع سورية في الشمال.

بذلك يستفيد التقليد السياسي المتنوّع من مناسبات عيدي الفطر والفصح وشهر رمضان المبارك للاستفادة من اهمية الدين الاجتماعية. فيحولونه من معادلة إيمانية الى وسيلة للاستثمار السياسي وشد العصب الطائفي وذلك ليس خدمة حتى لأبناء طوائفهم بل للسياسيين الناهبين للمال العام.

فمن يصدق ان الوزير وليد جنبلاط صاحب الحزب التقدمي الاشتراكي يدعو الى حماية «الصيغة اللبنانية الفريدة»، حسب تعبيره الطليعي جداً؟

بذلك يستنفر النظام السياسي كامل قوته الداخلية من ميليشيات وتوظيفات وتحشيد وتحريض وتوزيع اموال ووجبات طعام ورشى على زعماء الأحياء وتبرعات والتلويح باستخدام الجيش والامن والعصابات وأخيراً استقدم على عجل وصفته السحرية من العيارات الاعلى من رجال الدين، فهؤلاء يجسدون فنون استحضار الأنبياء والأئمة والقديسين والله عند الضرورة لتأييد الزعماء الذين يقدمونهم كحماة لطوائفهم ومذاهبهم.

فإذا كان هؤلاء على هذا النحو من القداسة فمن أين لهم هذه الكميات الكبيرة من الاموال وبالمليارات فيما يمتلك ازلامهم المتخرّجون من بيئة عصابات لصوص مئات ملايين الدولارات. وهذا يؤكد انهم بعيدون عن الله ولا يشكلون إلا أزلاماً لسياسيين متماثلين بدورهم مع زعماء عصابات بأزياء دينية يتقنون فنون تمثيل أدوار رجال الدين بمهارات اكتسبوها من أداء الدور في زمن طويل.

فهل أنعش هؤلاء التقليد السياسي الطائفي؟

لا شك في أنهم حقنوه بجرعات إنعاش بعد إصابته بضيق في حركته نتيجة لارتفاع حدة الصراعات الإقليمية والدولية الراعية له، فورد الإنقاذ من أداة كانت تختبئ عادة وراء هدوء ووقار مصطنعين.

لكن وصول الخطر الى قلب المعادلة الطائفية ورأسها أسقط الهيبة والبرود قاذفاً برجال الدين الى ساحة الدفاع عن البنية السياسية الطائفية، وذلك باستنفارها اولاً بذرائع نقص في وظائف أبنائها وصولاً الى دعم اشتباكات محدودة ذات بعد طائفي مذهبي اذا تطلب دعم النظام التقليدي مثل هذه المسرحيات.

إن العنصر الوحيد القادر على إلحاق هزيمة في مشروع استثمار الدين في دعم النظام الطائفي هو تصاعد الجوع على نحو يدرك فيه الناس ان الذي يقتلهم هو تحالف الفئات السياسية مع منتحلي الصفة الدينية بحماية من الخارج الإقليمي والدولي.

هذا الجوع هو اداة التوحيد بين ابناء تعدديات مذهبية وطائفية تحتاج الى اداة نقابية سياسية لتنظيم أكبر حركة لبنانية بوسعها إسقاط نظام طائفي يأكل حقوقها منذ 1948 ويقتلها منذ 1992.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى