أخيرة

لنكن مجتمعاً جديراً بالحياة…

 

} السيد علي عبد اللطيف فضل الله*

لا يمكن أن يختلف اثنان على أنّ ما وصلنا إليه في لبنان من أوضاع متردّية هو بفعل فاعل وليس قضاء وقدراً، بل إنّ هذا الوضع المتردّي المزري على كلّ المستويات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والمعيشية هو من نتاج الفساد والفاسدين، الذين أخلّوا بكلّ المعايير الوطنية والأخلاقية والقيَمية والدينية والإنسانية.

طبعاًهناك العامل السياسي الذي يأتي بالدرجة الأولى، لأنّ علة العلل هي في السياسة وفي هذا النظام السياسي العفن، الذي يتبادل فيه الكبار الانتفاعات والخدمات، والمكوّن من منظومة مال وسلطة تنسّق في ما بينها ثم تحكم الناس الضعفاء وتأكل مواردهم فتسيطر على المال العام، في ما يمكن تسميته منظومة فساد هي الأكثر وقاحة في العالم.

اليوم هناك فئة مستضعفة محكومة تُسحَق وتُطحَن تحت عجلات الفساد ونتائجه. هذا هو الواقع الذي نعيشه. ثمّ يأتي مَن يقول إنّ هناك إنجازاً تاريخياً قد تحقق بإقرار خطة لخمس سنوات؟ حسناًقد تكون الخطة جيدة، وقد نقول على الأقلّ صار لدينا خطة، لكن بقاء هذه الخطة مجرّدة في العراء يستدعي السؤال فوراً عن قدرة الناس على التحمّل ريثما تكون الخطة قد أثمرت بعد خمس سنوات، هذا طبعاً إذا سارت على سكة التنفيذ بشكل طبيعي، مع أنّ الشكوك بدأت تحوم منذ اليوم حول هذا الأمر، خاصة أنّ التعثّر اللبناني ظهر واضحاً مع انطلاق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، حيث ذهبنا إلى هذه المفاوضات بآراء متعدّدة وبحسابات وأرقام مختلفة…!

سنعود بعد قليل إلى صندوق النقد، لكن ما يجب تأكيده مجدّداً هو أنّ الناس لا يمكنها انتظار مفاعيل الخطة، ليس لخمس سنوات بل حتى ليوم غد. فالحاجة ماسّة إلى تحرّك سريع يقي المواطنين بغالبيتهم الكبيرة شرور الآتي من الأيام، خاصة أولئك الذين لا يعملون في الأساس، وقد زاد عليهم اليوم عدد كبير من الذين فقدوا أعمالهم ووظائفهم بفعل الأزمات المتلاحقة، وآخرها أزمة «كورونا» وما رتّبته من شلل للحياة الاقتصادية بكلّ وجوهها.

الخطوة الأولى المطلوبة اليوم هي كبح جماح الغلاء، ووقف التلاعب بلقمة عيش الفقراء، ومراقبة الأسعار، خاصة أسعار السلع الأساسية أو ما يسمّى «السلة الغذائية» التي لا يمكن الاستغناء عنها، واتخاذ أقصى التدابير وأقسى العقوبات بحق المخالفين والمتلاعبين والمحتكرين، من دون التوقف مطلقاً أمام كلّ أنواع الحمايات الطائفية والمذهبية والسياسية، خاصة أنّ ما نراه ونسمعه عن هذه الحمايات في ملفات الفيول المغشوش، والتلاعب بالعملة الوطنية، وارتكابات المصارف بحق المودعين الصغار والكبار والمقيمين والمغتربين، وغير ذلك من ملفات ينظر فيها القضاء ثم تأتي العرقلة واللفلفة من هنا وهناك…! هذه أمور لا تبشر بالخير ولا تشجع على الإطلاق ولا توحي أبداً أننا دخلنا كما قيل في مرحلة سياسية جديدة، بل تؤكد أننا لا نزال حيث نحن بل إننا ننزلق أكثر فأكثر إلى الهاوية، مما يزيد ويفاقم النقمة الشعبية على كلّ الأصعدة.

السكوت عن الفساد والفاسدين لم يعد جائزاً ولا مقبولاً، لأنّ السكوت في المرحلة الماضية جعل أركان المنظومة إياها يوغِلون في فسادهم وصفقاتهم التي كوّنوا من خلالها ثروات طائلة وهائلة، وذلك على حساب مجموع المواطنين وعلى حساب الاقتصاد الوطني الذي وصل إلى هذا الحضيض، ثمّ بعد كلّ هذا نعود إلى عقلية المحاصصة والتوازنات! مع محاولات من هنا وهناك لتلميع صورة هذا الفاسد أو ذاك ممّن ارتكبوا الجريمة بحق الوطن والمواطن، وبدل أن تكون المشكلة هي مع هؤلاء تحديداً نراهم يتصدّرون المشهد وينظّرون في كيف يجب أن يكون الإصلاح!؟

أما الإنجاز الحقيقي الذي يريده الناس فهو أن تتمّ محاسَبة السارقين والمرتكبين، وأن يوضع هؤلاء الواحد تلو الآخر في السجون، وأن لا تبقى مسألة مواجهة الفساد كلمات نسمع صداها، ولكن لا نرى أثرها على مستوى الواقع. أين المحاكمات؟ أين القضاء؟ هو محكوم من السياسيين الذين يفصّلون القوانين على قياسهم وقياس مصالحهم، فإذا أخطأ أحد من الفقراء في قضية بسيطة فإنّ القانون يُطبَّق بشدة، ولكن إزاء أخطاء بل جرائم المحميّات السياسية وإزاء مَن سرق ومَن أفسد فلا قضاء يتحرك ولا مَن يتقاضون…!

إنّ قضاء محكوماً بالسياسة هو قضاء يُشارك في الجريمة مع المجرمين والفاسدين، وإنّ طبقة سياسية تحمي كلّ هؤلاء المرتكبين هي طبقة سياسية مُتّهمة يجب أن تُحاكم.

وبالعودة إلى صندوق النقد الدولي، فرغم شروطه الاقتصادية والمالية، ومطالبته بتكريس انهيار العملة الوطنية، مما يؤدّي إلى المزيد من هذا الفقر المدقع، فإنّ لصندوق النقد الدولي شروطاً سياسية ليس أقلها مراقبة علاقات لبنان وتتبُّع المقاومة، لأنّ صندوق النقد يحمل سمات المشروع الأميركي الذي يريد تركيع الناس وتجويعهم، ويريد إسقاط كلّ الخيارات الوطنية. بينما نحن نحتاج الى حالة نهوض من قبل كلّ هذا المجتمع، لا يمكن لنا أن نجوع وأن نسكت، ولا يمكن إلا أن نرفع الصوت ونقول إنّ مجتمعاً لا ينبض بهذه الخياراتخيارات المواجهة مع الفاسدين، ومجتمعاً لا يمتطي الخيار الذي يحفظ كرامة الناس هو مجتمع غير جدير بالحياة

 

*رئيس لقاء الفكر العامليّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى