الوطن

تحرير الأرض لا يكتمل إلاّ بتحرير النفوس

} وجدي المصري

عشرون عاماً وذكرى التحرير ما زالت تشحذ النفوس الكبيرة لكي تستمرّ بصمودها ومقاومتها ووقوفها بوجه المتخاذلين الذين تعبوا من النضال فهرولوا للحاق بقطار التطبيع علّهم يحجزون لهم مكاناً بين رفاق الذلّ والخنوع. عشرون عاماً وطعم النصر، الذي ينكره البعض، ويهزأ به البعض الآخر، لم يزل يقضّ مضجع العدو ويدفعه إلى التحليل وصولاً إلى الأسباب لكي يعمل على تجاوزها في عدوانه المقبل. عشرون عاماً والمقاومة مستمرة، ليس فقط بالصمود، وإنمّا أيضاً باستكمال استعدادات مواجهة المرحلة المقبلة وترسيخ مبدأ توازن القوة الذي وحده يكفل بردع العدو ودفعه لاستجداء المساعدة من حلفائه الغربيين من جهة، وتغيير تكتيكاته الجيوسياسية في محاولة مكشوفة وخبيثة لتطويق المقاومة وذلك عن طريق استعمال المذهبية البغيضة لبث الفرقة بينها وبين من كانوا لوقت قريب من الداعمين لها، فإذا بهم يتحوّلون إلى أعداء لا يقلّون شراسة عن عدوّنا اليهودي الذي لا يترك فرصة إلاّ ويستغلها في سبيل تحقيق غاياته ومطامعه.

لم تكن السنوات العشرون من التحرير واستمرار المقاومة وتجذيرها وترسيخها لمبدأ القوة بمواجهة القوة ليقتنع المتخاذلون أنّ تحرير بقية الأرض ليس بالمهمة الصعبة متى انتصر، في نفوس أبناء متّحدنا اللبناني بشكل خاص. ومجتمعنا السوري بشكل عام، قرار الصمود والتصدّي لعصابات العدو التي اعتقدت في غفلة من زمن التفسخ القومي وضياع الانتماء الوطني الصريح، بأنهّا قوة لا تُهزم. عندما انتصر الإيمان في النفوس على الخنوع والذلّ استطاع كلّ من آمن بالمقاومة وسيلة وحيدة للتحرير الإنتصار وإعلان أنّ عصر الهزائم قد انتهى وابتدأ عصر الإنتصارات. وحدهم المشكّكون واللاهثون وراء الاستسلام كضمانة لمراكزهم ومصالحهم باقون على عنتهم وضعفهم أمام المغريات وتفضيلهم مصالحهم الخاصة على مصلحة الأمة العليا، وهؤلاء لحقارة نفوسهم لم يتعلموا من التاريخ شيئاً، ولم يدركوا أنّ الخروج من الحفر الوضيعة الى القمم الشامخة يستلزم إرادات نادرة، صلبة، واثقة، مؤمنة بالبطولة المؤيدة بصحة العقيدة والتي وحدها تستطيع انتشال أصحاب النفوس الضعيفة من رمال الذلّ المتحرّكة إلى أرض الكرامة المتحرّرة.

عشرون عاماً لو تكاتف خلالها الجميع لتصليب أرض المقاومة لاستطعنا استرداد بقية الأرض السليبة. ولكن وبالرغم من أهمية تحرير الأرض لم نستطع الارتقاء إلى مستوى تحرير النفوس الذي وحده يكفل رعاية تحرير الأرض والدفع باتجاه استكماله. تحرير الأرض لم يترافق أبداً مع أيّ نشاط فاعل لتحرير النفوس من كلّ الأمراض الاجتماعية التي زرعتها الإقطاعيات السياسية والطائفية والمذهبية لكي تؤمّن استمرار جهل المواطن لمصلحته التي لا يمكن أن تنفصل عن مصلحة الأمة العامة. فتحرير النفوس أصعب بكثير من تحرير الأرض، وهو إنْ لم يحدث فخطر خسارة الأرض مرة ثانية ترتفع نسبته بدلاً من انخفاضها لصالح استكمال تحرير ما تبقى منها تحت الاحتلال.

إنّ متحّدنا اللبناني الذي جعله الاستعمار دولة ونصّب في سدّة الحكم من يُبقي على مصالحه، لم يتحوّل بالفعل إلى دولة تُشعر مواطنيها بأنهّم ينتمون إلى وطن، بل سعت هذه الدولة بكلّ ما أعطي لسياسييها من قوة إذلال المواطن، وترسيخ التفتيت الاجتماعي عن طريق زرع بذور الطائفية المقيتة والعناية بهذا الزرع على مدى عقود حتى ضربت جذوره في الأعماق وبات من الصعب اجتثاثها، سعت إلى ترسيخ كلّ المثالب الإجتماعية في أبناء المجتمع وساروا بهم إلى مستنقعات الذلّ والمهانة. فمن الطائفية والمذهبية، إلى الاستزلام واستغلال النفوذ، إلى انهيار القيم والمثل التي لا يمكن لمجتمع أن ينهض من دونها، إلى إيثار المصلحة الخاصة على مصلحة الأمة العامة، إلى إذلال النفس على أبواب الزعامات النافذة ومن ثم إذلالها ثانية بدفعها إلى معاداة المقاومة وقبول التطبيع والخنوع أمام مخططات العدو، سلسلة مترابطة من الخطوات لقهر نفوس الأغنياء بإيمانهم بأنّ الأوطان لا تبنى برعاية المفاسد بل بزرع الفضائل.

إنّ تحرير الأرض على أهميته يبقى ناقصاً ما لم يترافق بسعي دؤوب لبناء إنسان جديد قادر على مواجهة المثالب والمفاسد التي زرعتها الطبقة السياسية منذ ولادة لبنان الكبير الذي يحتفلون بمئويته وكأنهّم عملياً قد بنوا وطناً يستطيع المواطن فيه أن يتنفس حرية وكرامة وعزاً. إنّ طبقة حاكمة كانت ترفع منذ عقود ولّما تزل شعار قوة لبنان في ضعفه لهي طبقة عاجزة عن بناء وطن لكلّ أبنائه، وعاجزة عن استثمار تحرير الأرض لصالح بناء المواطن القادر على صيانة هذا التحرير واستكماله. إنّ طبقة سياسية حاكمة لم تستطع لغاية اليوم، لأنها لا تريد وليس لأنها غير قادرة، بناء جيش قوي يكون سداً منيعاً بوجه العدو الطامع بأرضنا وحقّنا بالوجود والتقدّم، لهي طبقة فاسدة لا أمل منها. إنّ من يدقق بالاتفاقيات الدولية التي وقّع عليها لبنان مكرهاً وليس اختياراً، وعن جُبنٍ بالمواجهة، لعلم أنّ حبل المشنقة قد أمسَك بخناقنا، ولم يعد لنا أمل بالتقدّم والإزدهار وبحياة حرّة كريمة إلاّ بالإمتثال للإرادات الخارجية التي سلبت منا حرية تقرير المصير مخالفة بذلك كلّ الشرائع الدولية والحقوقية والإنسانية. هذه الإتفاقيات فيها شروط واضحة تقضي بضرورة القضاء على المقاومة كرمى لعيون العدو، وإنْ نحن لم نفعل فعبثاً نحاول الخروج من عنق زجاجة المأزق الذي دفعونا إليه وأغرقونا في وحوله.

مبارك لنا التحرير، ومباركة هي المساعي الدائمة لحمايته وصولاً إلى تحرير بقية الأرض. وعسى أن نصل إلى الوقت الذي نبارك فيه لأجيالنا التي ثارت على الظلم والفساد، على الطائفية والمذهبية، على الإستزلام والخنوع. ولكنّنا لن ندرك ذلك اليوم إلاّ عندما نحرّر نفوسنا من هذه الآفات، ونسعى إلى تطبيق تربية مدنية وطنية في البيت أولاً وفي المدرسة ثانياً. إنهّا عملية شاقة وطويلة لكنهّا ليست مستحيلة خاصة إذا توفرّت لها الإرادات الصادقة المصمّمة على بناء الدولة المدنية النقيض لدولة الطوائف والزبائنية. إنّنا مطالبون اليوم وقبل فوات الأوان بتنكّب مسؤولياتنا لمواجهة الطبقة السياسية الفاشلة التي تحاول الإلتفاف على مطالب الناس المحقة فتصوّر نفسها بأنها هي المنقذ لا المخرّب، وهي حامية الديمقراطية وليست الديكتاتورية المقنعّة، وهي العلمانية لا الرجعية.

تحرير الأرض عمل مقدّس، أمّا تحرير النفوس فهو القداسة، فهلّا سعينا بجد لبلوغ القداسة الحقيقية؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى