ثقافة وفنون

صديقي صلاح لم يمُت…

 

} د. مروان فارس

أما وقد انطفأت شمس صلاح ستيتية، إلا أنّ الأنوار المتصاعدة مع أشعاره لا تزال مستمرة في إضاءة هذا العالم الفسيح الظلام. وفي شعره جدليات، جدليات تنطلق من العقل الى الشعر لتمحو حدود الانفصال في الإبداع. عنده جدليات مثلثة تراتب فيها الصور والإيقاعات لينشأ شعر جديد في هذا العالم القديم.

انّ الجدلية المعهودة في الفلسفة تطرح إشكالية العلاقة بين طرفين من معادلة تقوم على تفاعل أو تضادّ أو اثنين معاً. غير انّ في السياق الشعري هذا تدخل الإضافة الجديدة على الجدل الفلسفي لتجعل منه جدلاً شعرياً. فانْ كان الأول محكوماً بعلاقات العقل، فإنّ الثاني يجعل من هذه العلاقات أحد أطراف الجدل ليصبح بذلك نمطاً جديداً يقوم على قواعد جديدة مركبة تركيباً مميزاً. والأمثلة متعدّدة الى حدّ يمكن اعتباره نمطاً. وانّ هذا النمط يتيح الفرص أمام إمكانية القول بنمط جديد في الكتابة الشعرية يقوم على الجدل المثلث في الغنائية الجديدة أيّ ما بعد الحداثة:

مثلاً:

أ ـ

فلتأخذ كلّ والدة صمتاً

بالأصابع المذهلة للأبناء

في الخسوف وفي البرق

وقد أبعد القمر الرؤساء

وأخاط من ثم فأخاط الجفون

إنّ هذا النص يقوم على توازن الانكسار في الجدل الثنائي ويتكئ الى قاعدة المثلث في الرؤية التي تنطلق منها الأضلاع على الوجه التالي:

الخسوفالبرقالرؤيا.

فالخسوف اجتزاء في يابسة القمر والبرق اجتزاء من نار الفضاء والانكسار، انّ بعضاً من اكتمال الرؤيا التي منها الخسوف جزء البرق جزء آخر.

ب ـ

هذه اليمامة مع القليل من الجمر

هي سماء جرّدت، هي احتراقي

مخطوطاً على جفاف الشجرة ومن ثم غير مخطوط

حتى يتحرّر الفكر ممّن وهمه ومض في السماء

هنا يقفز الجدل من المعطى العادي ليصبح مركباً بشكل مزدوج. فيتمّ الذهاب من رؤية الجمر الى اللون الأحمر فيه ومن رؤية السماء الى اللون الأزرق فيها وصولاً الى الشجرة التي هي في الطبيعة خضراء. فيقوم البيان كما يلي:

الجمرة حمراء (1) الشجرة خضراء (2) السماء زرقاء (3).

على هذا المستوى تظهر العلاقات ثنائية داخل ضلع المثلث، ثنائيات الضلعين مثلثة مع القاعدة. فالجملة والشجرة: الأحمر والأخضر بعض من الطبيعة تحيط بها السماء أيضاً في علم العلماء والشعراء أيضاً.

ج ـ

كمصباح هي حديقة الطفولة

تلمع من برد الثمر

وهواء القوس

كأن سعف حياة تولد

في يد للّا أحد

إنما المصباح هذا فحسب مطعّم بالصقيع

وقد أضحى بغيبته اللهيب.

النقلة الثالثة في الجدل تتمثل في جدل التضاد الثنائي في شبكة العلاقات المثلثة. انّ هذا النوع من الجدل الداخلي داخل الجدل العام، لا يلغي القاعدة بل يعيد التأكيد على انّ نظام العلاقات في الصورة الشعرية ليس نظاماً بسيطاً يتمّ تفكيكه على مستوى الشعور والوجدان فحسب، بل إن الأمر يحتاج لنشاط في العقل. مما يرفع من مستوى الغنائية تلي حقبة أبعد في التأسيس الغنائي في العصور. فنظام العلاقة داخل المثلث الجدلي هذا هو على الوجه التالي:

برد/الثمرة (1 -) هواء/ القوس (2 -) حياة تولد (3).

هذه العلاقة على مستوى الضلعين في المثلث على علاقة تعيد انتظام التواصلات اللغوية والمفهومية القديمة في انتظام جديد فيه من جمال الصورة التقليدية ذات الطابع الطباقي ما فيه، وفيه دعوة لمفهوم جديد عبر الصورة الجديدة القائمة على غياب العلاقات السابقة. لذلك يتكئ كلّ هذا التحديث على القاعدة/ الأساس في المثلث والتي هي قاعدة الحياة التي تولد. انّ هذه الحياة الطالعة من التضاد تعيد ترتيب النظام الكوني المعهود في نظام سحري جديد هو نظام النص الجديد للغنائية الجديدة.

د ـ

نجمة نحيلة لهذه البنات، في الهواء اليابس

يحرق في النوم الذهني نوم نار من ثلج

حيث تلمع في اكتمالها الغيوم

موشحة بالحب ومن ثم فجأة خدّها أسود

على خدّ الدموع

كما زهرة زهرة تحطّم المهد

لتلك التي تكاد أن تغفو منها الرموش

إنّ هذه الغنائية القائمة في خلاصات جدل النقائض، تذهب بالتضاد الى حدوده القصوى، حيث يستوي كلّ شيء ليقود النص الى الجوهر الذي منه النقائض بحدّ ذاتها. ان ذلك يخرج من المعقول الاعتيادي الى المعقول غير الاعتيادي، أو بالأحرى الى تأسيس معقول جديد يحلّ محلّ المعقول. مرة أخرى نعود لمنطق الفلسفة بغية المقاربة فحسب. فالمعقول على هذه السرية هو نقيض لغير المعقول. أما في النص الشعري هذا فإن نقيض المعقول العادي هو معقول غير اعتيادي يمحو مفهوم اللامعقول. لا تعود النار نقيضاً للثلج لتنشأ بين الطرفين جدلية جديدة للصمت، صمت امّحاء الحدود بين المفاهيم المختلفة. فيظهر المثلث على ما يلي:

نار (1) ثلج (2) من (3).

فلأن النار هي ثلج تضحي الأداة المنطقيةمنقاعدة للمساواة والتناسل بين طرفين غير متساويين في المعقول الاعتيادي، ليصبحا معقولاً غير اعتيادي في اللغة الجديدة الذاهبة أبداً باتجاه التجديد.

واذ تتعدّد الجدليات هذه إلى حدود يمكن الاعتبار بأنّ كامل النص الستيتي قائم عليه. نرى الى امتداد هذه الجدليات الى ما أبعد مما هو في الكلمةالمفهوم وصولاً الى جدلية الجمل المثلثة

أما وقد سطعت شمس الشعر مع انقضاء عصر جديد مثل فيه صلاح ستيتية هذا العالم تمثيلاً جديداً بلغة تتراكم في داخلها الصور والموسيقى، الإيقاعات والأنغام لتخلق في هذا العالم مدرسة في الشعر، لذلك كله فإنّ غيابه لن يحصل أبداً. فالشمس وصلاح صنوان للضوء والحرائق، تماماً كما النار لا تنطفئ مع انطفاء الذين يشعلونها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى