ثقافة وفنون

 

حاورها: طلال مرتضى*بودابست

ما تقوله تلك المرأة في صمتها أكثر من كلامها، شغبها الأنثويّ ليس في حلاوة لسانها مثل الأخريات بل يكمن في أصابعها التي خرجت من خرسها لتصنع في أعين الناظرين دهشة الكلام. امرأة صعبة المراس مثل فرس حرون، لكنها طيّعة ليّنة على القماش، تستطيع القبض على كل مشاعرها بكل سهولة وهي تسيل ألواناً فوق وجه القماش. تستطيع مغازلتها ومناكفتها وقد تتاح لك الفرصة أن تتلمّس مسامها المسفوحة بالأحمر القاني متى شئت، ما دمت لم تخرج عن إطار اللوحة التي بين يديك.

الفنانة المجرية «تسوتسانا دومونكوس» وفي جلسة فضفضة خاصة، تحدّثت وبعفويتها المعهّودة، نشارككم الحديث معها في ما يلي.

[ يشكّل اللون الأحمر والأسود علاقة حميمة وحضوراً لافتاً في كل لوحاتك الفنية، هل اتفقت الطاقة الإيجابية (الأسود) مع الحب والثورة الكامنين في (الأحمر)؟

ـ لا أعلم.. أنا أحبّ كليهما، وكل ما أعرف أنهما قويان جدًا بالنسبة لي. فعندما أبدأ العمل على لوحة جديدة، لا أفكر أبدًا في الألوان، أختار بشكل عفوي وغريزي. ولكن الشيء الذي أختاره بحالة الوعي هو اللون الأسود وفي معظم الأحيان أغرق كلي باللون الأحمر. لا أستطيع أن أقول لك المزيد عن طقوسي السرّية مع الألوان. بالتأكيد.. لوني المفضّل هو الأزرق. ولكنني أستخدمه في الخلفية.

[ هل تأثّرت بتجربة فنية أو مدرسة فنية معروفة، ولماذا اخترت ميدان الرسم؟

ـ أبداً لا أجدني أقترب من أحد.. كما أنني لا أرى شيئاً مميزاً ينسبني لأية مدرسة، أنا ارسم على سجيّة روحي، الفكرة هي مَن تأخذني إليها. السبب الذي دفعني للرسم، هو أنني أردت أن أحرر مشاعري العاطفيّة من الأسر.. أردت أن أقول كيف أشعر وبصوت عالٍ.. لكن من دون كلمات. الرسم بالنسبة إليّ هو حالة شغف وليس عمل. أرسم من أجل سعادتي وحريّتي.. كان والداي يعملان الأوبريت في المسرح، وفي الأوبرا، وفي مسرح الرقص أيضًا. أخذت طفولتي كلها من هذه الأماكن، وهي التي فتحت لي طريق التواصل مع الألوان، من هذا الباب دخلت فوجدت نفسي هنا.

[ النقد هو قيمة إضافية لكل تجربة إبداعيّة. كيف تصفين علاقتك مع النقد؟

ـ قالوا مرة عن أعمالي: إنها متوحشة.. وفيها الكثير من الغرائز المخبوءة والخام أيضاً وأكّدوا على أنها صادقة وهذا ما يجعلني زاخرة لهذا السبب. بالإضافة إلى أن النقاد أحبوا تجربتي وأبدوا الكثير من المشاعر الإيجابية تجاهها، والمهتمّون بفنّ الرسم هنا يقيمون معارضهم في المنازل، يدعونني للمشاركة ويعرضون لي أيضاً. كان هناك المزيد من المعارض هنا في بودابست، والآن يتم عرض رسومي في مدينة دبريسين.. ومعرض فيينا السنة الماضية، كل شيء كان ناجحاً.

[ الذي يقرأ تجربتك يقف في حيرة أمام لوحتك، معظم أعمالك الفنيّة لا ظلّ لها، مثال، الأشجار والأشخاص؟

ـ لأنني لا أنتبه للظلال.. إن رسومي ليست صورة للواقع ولا تقاربه.

[ هناك مسافات بعيدة جداً بينك وبين الفكرة التي رسمتها. أي منكما الأبعد عن الآخر، أنت أم الفكرة التي نراها داخل إطار اللوحة؟

ـ أنا لا أركّز على التفاصيل، ولا أعمل عليها كثيرًا، أرى كيف هي في مخيلتي وأرسمها.. أنا مجرد وسيط بين القماش والألوان وبين المخيلة التي تمتلك الفكرة، مهمّتي هي نقل هذه الفكرة من مخيلتي وأسلمها للقماش.

[ هناك العديد بل الكثير من السفن والقوارب في لوحاتك، ترفع أشرعة المغادرة نحو المجهول.. إلى أي وجهة هي مسافرة، وهل تتمنى تسوزانا لجسدها الحقيقيّ أن يسافر مع خيالها؟

ـ نعم.. كل رسومي هي من نبض قلبي وهذا يعني، حيث يكون خيالي أود أن أكون، أو أين يسافر أنا معه بكل ما أشعر من روعة بهذا. لكن هذه الأشياء التي رسمتها صدقني، لم يتم التخطيط لها أبدًا.. لذا فهي ولدت من خيالي أو ذكرياتي أو مشاعري.. مثل مدن الأشباح، شواطئ الأشباح، الزهور والغابات، لا شيء حقيقي.

[ مدينتك بودابست ساحرة للغاية.. ماذا أعطت لموهبتك؟

ـ قد تستغرب.. لا شيء على الصعيد المادي إلا أنني أحب بودابست، وبيتي وأنا سعيدة هنا. هي مدينة راحة وأمان بالنسبة لي. ما يلهمني هنا، الأشياء، الناس، الزهور، لذلك كل شيء، ما أشعر به هو التواصل معهم.

[ لقد زرت مدينتك مرات عدة، رأيت أن الجسور هي الشريان بين المدينة القديمة والحديثة، بين بودا وبست. في الرسم رأيت عدداً من هذه الجسور.. هل تلك الجسور إضافية أم أنها ترمز للتواصل والحب مثلا؟

ـ الجسر في الواقع هو للوصول إلى الضفة الأخرى، لا أدري لماذا أردت الوقوف عليه في المتخيّل، ربما أردت الوقوف على جسري أنا.. كنا نركب الدراجات في كثير من الأحيان ونعبر الجسور، لكن بعد أن أغلقوا بودابست بسبب الوباء خنقوا جنتنا بودابست.. نتسلل سراً عبر تلك الجسور الآن وهذا مثير ورائع.. بيني وبين الجسر علاقة عميقة، أنا وهو مَن يعرف قيمتها.

[ بعد معرض فيينا ومعرض بودابست الأخير.. ماذا ما بعد كورونا؟

ـ تقريباً عن كل لوحة لديّ قصة، وماذا، ولماذا رسمتها، وعن قصد أو ليس عن قصد لا أدري، فمن الواضح بالنسبة لي، أن كل ما خلقته من تجربتي هو جزء كل من مشاعري. الفيروس والوقت الذي صنعه، جعلني أكثر إبداعاً، مع المزيد من المشاعر حول الحرية والسفر لرؤية المزيد من الأشياء حول العالم. أن تكون مؤمناً، كان رهيباً، لكن الأمر دفعني إلى احترام المزيد ما لديّ. سيكون من الجميل أن أعرض مرة أخرى، ولكن في الحقيقة أنا لا أعرف ما الذي سيجلبه المستقبل لرسومي، سأستمر في صنعها، لأنه بالنسبة وقت المتعة. كما قلت من قبل: لأعيش الحياة بمشاعر قوية، هناك أشياء يصعب حملها في كثير من الأحيان لهذا وعندما رسمتها تخفّفتُ منها.

[ كلمة أخيرة.

ـ الحياة جميلة جداً.. لربما لا نستطيع الاستمرار معها، لهذا علينا أن نسجلها، بالرسم أو الكتابة أو بأي شيء يؤكد بأننا لم نعبرها مثل الفراغ.

*كاتب عربيفيينا

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى