مقالات وآراء

عن الوطن ومفاهيم الوطنيّة وفعل الخيانة…

 

} د. حسن مرهج

الوطن الذي قال فيه الراحل محمد الماغوط، في كتابه «سأخون وطني»، الذي يكاد أن يكون أيقونة تُجسّد معنى الوطنية الحقيقية، ومعنى الانتماء للوطن، أصبح مُختزلاً لدى البعض من مُدّعي الثقافة، بأدوات وصور تُجسّد ضعف انتمائهم للوطن، ويسوقون صوراً إطارها الوطنية لكن باطنها خيانة، هؤلاء نسوا تماماً أنّ الوطن بمؤسّساته وحُكوماته وقيادته هي الأولى والأحق بكلمة وطن.

وبصرف النظر عن السلبيّات في كلّ الأنظمة السياسية في العالم، ومنها سورية، إلا أنّ سورية أنتجت لنا جيلاً فكرياً وثقافياً، كما أنّ سورية كانت ولا تزال اللبنة الأولى في هذا الشرق التي ساهمت ولا تزال، بتفنيد الحقائق وكشف الحقيقة لمدّعي حب الوطن والوطنية، وذلك انطلاقاً من عمق سورية في تاريخ هذا المشرق.

من المؤكد أننا نحتاج إلى تعريف الخيانة بصورة منطقية وواضحة، حتى لا ندخل في جدالات خطابيّة للتداول فقط، وحتى لا يُغنّي البعض على ليلاه، ونحن في زمن انقلبت فيه المفاهيم وسقطت فيه القيم وانهارت فيه المنظومة الأخلاقية، وأصبحنا نحتاج فيه أن نُعرّف المعرّف ونشرح المسلّم به، وذلك بسبب غسيل المخ والدماغ الذي يحاول أن يمارسه البعضُ علينا، في ظلّ النفاق الاجتماعي والسياسي الإقليمي والدولي، الذي يطفو على السطح من حياتنا اليومية.

في هذا الإطار، فإنّ فعل الخيانة لا تبرّره سطوة حاكم، أو فساد نظام سياسي، كما لا تبرّره ردات فعل نُظمت بأيدي المستفيدين من السلطة، فـخيانة الوطن فعل مدان أياً كانت الأسباب والمسبّبات، وفعل خارج أيّ إطار أخلاقي أو ديني، وبذلك تتعدّد صور الخيانة بتعدّد المفعول به، أيّ بتعدّد من وقع عليه فعل الخيانة، وأقبح صور الخيانة هي خيانة الوطن، لأنّ من وقع عليه الفعل هنا هو الوطن. فعندما تكون الخيانة بحجم الوطن تكون الدناءة والانحطاط واللؤم والخسة، التي تنطوي عليها نفس الخائن. ومن هنا كانت خيانة الوطن خيانة عظمى. وكما يقول البعض إنْ لم تفلح بتغيير نظامك السياسي، فلا تلجأ إلى جذب التدخل الخارجي، ولا تحمل سلاحاً توجّهه إلى مؤسسات الدولة، فإما أن تلجأ للعمل السياسي المُنظم بما لا يتجاوز سقف وطنك، وإما الزم الصمت وراقب.

أيّ قُبح هو فعل خيانة الوطن، فلا الدرهم ولا الريال ولا الدولار، ستحقق الولاء والانتماء، فكل شيء قابل للمساومة والبيع، إلا الأوطان فهي باقية ونحن المغادرون. وبالتالي فإنّ خيانة الوطن جريمة كبرى لا تُغتفر لكون المجني عليه هو الوطن، وكلّ عمل مُشين يمكن للمرء أن يجد مبرّراً لفاعله إلا خيانة الوطن لا مبرّر لها ولا شفاعة لمرتكبها، مهما كانت منزلته، ومهما كان السبب الذي يدفع لها، فهو أبداً لا يشفع أن تبيع وطنك وتتآمر عليه. فالوطن بمنزلة العرض والشرف للإنسان ومَن هان عليه وطنه يهون عليه عرضه وشرفه.

إذا ما أجمعنا على أنّ المواطن هو مَن يخدم الوطن، فحريٌّ بنا أن نتّفق على أنّ خدمة الوطن أسمى وأكبر من أن نحصرها بالدفاع عنه وحمايته بالجسد والسلاح، فإذا ما هممنا بخدمته من بابٍ أولى أن نخدمه بالعلم والتوعية والتفقيه ونقله من قطعة جغرافية، أو جواز سفر من ورق، إلى نهضة وحضارة وثورة فكرية ثقافية تغزو العقول، حتى نُصبح أمة مُنتجة تملك ما تملك من المصانع والمزارع.

لا شك في أنّ الحرب على سورية أفرزت تداعيات كثيرة على كافة الأصعدة، خاصة أنّ طبيعة هذه الحرب فرضت نمطاً غير اعتيادي في إطار التوصيفات بين الوطني واللاوطني، إضافة إلى أولئك المختبئين خلف ستار الوطن، لكنهم يقومون بممارسات تبتعد عن الوطن جملة وتفصيلاً. في هذا الإطار تبلورت إشكاليات عديدة، وبات من الصعب التمييز بين هذه الفئات، فعلى سبيل المثال لا الحصر، كثيراً ما يردّد السوريون عبارة دواعش الداخل، في إشارة إلى الفاسدين وتجار الحرب، وبلسان السوريين أنفسهم فإنّ هؤلاء ما زالوا في مناصب رفيعة المستوى في الدولة السورية. وهنا لا ننكر إطلاقاً أنّ الرئيس بشار  الأسد يُحارب الفساد ورموزه وتحديداً ممن هم في الصفوف القيادية، وقد ذكر الرئيس الأسد مراراً استراتيجيته في تطهير سورية من هؤلاء الفاسدين، وهو بتوصيفاته لهؤلاء حدّد بوصلة العمل الوطني، بمعنى أنّ الوطن فوق الجميع، وأيّ مسؤول هو خادم للوطن والمواطن، وبالتالي فإنّ توصيف الوطنية لا ينطبق على كثيرين من هؤلاء، لا سيما أنهم وخلال سنوات الحرب على سورية، استغلوا حاجة المواطن أولاً، والعقوبات المفروضة على سورية ثانياً، ومراكزهم المرموقة ثالثاً.

وعليه، من الضروري في هذا الإطار وضع الأمور في نصابها الصحيح، حتى أنّ المواطن السوري الذي عانى من ويلات الحرب والفساد، بات قادراً على تحديد الشخصيات الوطنية في سورية، والشخصيات التي اتخذت من الشعارات مطيّة للعبور على الوطنية، وتحقيق الغايات الشخصية، وهؤلاء أيضاً يمكن وصفهم بخونة الوطن والأمانة التي أوكلت لهم.

في المحصلة، وباختصار شديد نقول: «بين الوطنية والخيانة خيطٌ رفيع لا يراه إلا الأوفياء».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى