الوطن

وأد الفتنة خير من لعن مَن أيقظها…

 

} علي بدر الدين

تجاوز لبنان قطوعاً خطيراً كاد لولا تدخل العقلاء والسرعة في إطفاء النار التي تمدّدت إلى غير منطقة أن يقوّض ما تبقى من أسس السلم الأهلي الهشّ، وأن يعيد البلد إلى الحرب الأهلية أو أقله التذكير بمآسيها التي لا تزال حاضرة في ذاكرة اللبنانيين وفي آلاف الضحايا الذين سقطوا والجرحى والمعوقين منهم، وفي الأبنية المتصدّعة التي لا تزال شاهدة على همجية الذين خاضوا حروباً طاحنة ليس من أجل بناء وطن العدالة والقانون والمؤسسات بل من أجل صعود طبقة سياسية تعيد إنتاج وإحياء النظام السياسي الطائفي والمذهبي البغيض الأشدّ وطأة وظلماً واستبداداً والأكثر فساداً ونهباً وتحاصصاً ممن سبقه لغاية اتفاق الطائف الملغوم والمشوّه الذي يشهد الشعب اللبناني على تداعياته الكارثية أمناً واقتصاداً وإفلاساً مالياً ومعيشة قاسية تتمثل بالفقر والجوع والبطالة، والأسوأ في هذا الاتفاق الذي لا يزال بعد ثلاثة عقود مادة دسمة للتجاذبات والسجالات حول الصلاحيات المنوطة بالرئاسات والمؤسسات وتعيينات موظفي الفئة الأولى وغير ذلك من بنود التحاصص وتوزيع المغانم، وإهمال ما هو مفيد وإيجابي للوطن والشعب والمؤسسات والقضاء، واعتماد آلية التوظيف التي تلتزم الكفاءة والنزاهة وليس ما يحصل اليوم في ما يتعلق بالتعيينات الإدارية والمالية وغيرها والتي لم تجرؤ الحكومة وغيرها على إقرارها لأنها لا تلبّي مصالح الطبقة السياسية ولا توفر لها عملية التوزيع المصلحي والنفعي والشخصي وانْ كانت محصّنة بحقوق الطوائف والمذاهب زوراً

والأكثر إيلاماً أنّ هذا الاتفاق رغم أنه أوقف الحرب الأهلية العبثية آنذاك لكنه وفق النتائج وما يحصل الآن وعلى مدى سنوات مضت أنه كان مفخخاً ويكفي أنه أنجب بعد مخاضات عسيرة هذه الطبقة السياسية وحماها بالسلاح الطائفي والمذهبي وحصنها بقوانين انتخابية صارمة لا تنتج سوى الذين تبنّوها ومن يروق لها ويحظى بعطفها، والنتيجة ما نحن فيه الشاهد على أدائها وإدارتها لشؤون البلاد والعباد، وخاصة الذين ربّتهم على الأحقاد والكراهية والانغماس في الغرائز وإثارة النعرات ورفع شعارات وإساءات وعناوين سياسية ودينية كافية لوحدها أن تشعل نار الفتنة التي لا تزال رغم ضخها بالمواقف التجميلية والنهي عنها تعسّ تحت الرماد وتهبّ عند أول ريح طائفية ومذهبية، أو عند استهداف رمز ديني أو شخصية سياسية، وكأن لا قيمة لأيّ اتفاقات ومواثيق وأطنان من الدعوات إلى تغليب العيش المشترك والوحدة الوطنية لأنّ التربية الوطنية مفقودة من الأساس، وتحوّل الانتماء والولاء إلى الطائفة أو المذهب أو المنطقة أو المسؤول وليس إلى الوطن الذي يتغنّون فيه ويردّدون نفاقاً انّ من لا وطن له لا كرامة له، وأنّ الوطن هوية وانتماء، وعند أول نعرة أو هزّة أو إساءة تصدر من هذا الفريق أو ذاك يتمّ الطعن بالوطن والغدر به، ولا يعود قطعة من السما ودرّة أو سويسرا الشرق أو «نيال من له مرقد عنزة»، بينما الحاصل هو الإمعان فيه وفي شعبه تمزيقاً وتقسيماً من دون ايّ اعتبار لحياة وسلامة واستقرار وقلق الناس  الذين يعيشون الرعب وتتعطل مصالحهم وتخرب الممتلكات وكأنّ الذي فيهم لا يكفيهم.

انّ ردود الفعل على ما حصل يوم السبت الفائت من القوى السياسية والمرجعيات الدينية على أهميته في إطفاء نار الفتنة لم يأت على مستوى الخطر المتربّص والذي كاد ان يفلت الملقّ وتتدحرج كرة الفتنة القاتلة التي لا تبقي ولا تذرّ، وهنا يسجل للجيش والقوى الأمنية دورها المشهود له في عدم تمدّدها، لأنه لا يكفي فقط أن نلعن من أيقظ الفتنة، ونطلق التصريحات والدعوات لعدم الانجرار إليها، والتي بات تكرارها مملاً وبلا طعمة لأنها مجرد جرعات مهدّئة ومؤقتة لا يعتدّ بها ولا الاستكانة إليها وتنتهي بانتهاء مفعولها، ولم يعد مقبولاً التمادي في زعزعة الأمن والاستقرار كلما تشيطن البعض ومهما كان السبب لأنّ البلد والشعب فوق كلّ اعتبار أو مصلحة، وعلى القيادات السياسية والدينية ان تضع حداً للتابعين لها والمجنّدين بأمرتها وطوع أيديها إذا لم تكن راضية أو موافقة أو محرّضة بأن ترفع الغطاء السياسي والحزبي والطائفي والمذهبي عنهم وتتبرّأ من كلّ من يدعو أو يسعى إلى الفتنة لأنه «مش كلّ مرة بتسلم الجرة»، ولأنّ ما حصل بالأمس وقبله من أحداث وشغب واستجرار الى الفتنة يؤكد أنه ما زال هناك لبنانيون بحاجة إلى إعادة تأهيل وطني وقد أدمنوا التبعية والارتهان والطاعة وتنفيذ الأوامر ولا يمكن لهم التخلي عن الوتد الطائفي أو المذهبي أو الخروج من غرائزهم على قاعدة «من الحبّ ما قتل»، وانّ «العرق دساس»…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى