أولى

هل سيعود لبنان إلى العام 1975؟ أم 2005؟ أم 2008؟ فتنة أم احتواء؟

العميد د. أمين محمد حطيط*

 

بعد الفشل الذريع الذي أصاب مشاريع الغرب بقيادة أميركية في المنطقة، عاد المعتدون إلى الساحة اللبنانية لإنجاز شيء يشكل لهم جائزة ترضية بعد الإخفاق الاستراتيجي في سورية. فقد اندلعت الحرب الكونية على سورية تحت عنوان رئيسي: إسقاط القلعة الوسطى من محور المقاومة لتفكيك المحور وفرض التسوية التصفووية بتسليم فلسطين كلها لـ «إسرائيل» وشطب حق العودة للفلسطينيين وإعطاء «إسرائيل» ما تريد من أرض الجوار في لبنان وسورية.

بيد انّ الحرب الإرهابية على سورية تكاد تنتهي اليوم على إخفاق كبير وفشل في تحقيق أهدافها، وانّ الوقت المتبقي لترامب لفرض رؤيته للسلام المسماة «صفقة القرن» بات ضيقاً لا يسمح بترف التسويف والانتظار وان الأوضاع في أميركا تتدحرج بسرعة حتى باتت تهدّد ترامب نفسه، لذلك يبدو أنّ المخطط عاد إلى لبنان لدفعه إلى فتنة تحاصر حزب الله وتقود إلى ترويضه ووضع اليد على سلاحه لإراحة «إسرائيل» من هذا الهمّ الذي حرمها حرية قرار الحرب وفرض عليها معادلة ردع استراتيجي وقواعد اشتباك ندّية جعلت الردّ على عدوانها حتمياً ليعيد التوازن إلى الميدان. يريدون فتنة تحاكي ما حصل في العام 1975 وأدّى إلى إخراج المقاومة الفلسطينية أو فتنة الـ 2005 التي هيّأت البيئة لعودة الجيش العربي السوري من لبنان إلى سورية، ويرون الآن حاجة إلى فتنة ثالثة تؤدّي إلى التخلص من سلاح المقاومة التي يقودها وينفذها حزب الله.

لقد أدرك الصهاينة انّ وجود سلاح المقاومة في لبنان يمنع نجاحهم وهو السلاح الذي تحرّكه إرادة فولاذية صلبة واعية وتستعمله حيث يجب وكيف يجب، سلاح من شأنه أن يفسد عليهم خططهم لأنه يشكل رأس حربة محور المقاومة الاستراتيجي القادر رغم كلّ الضغوط والحروب عليه القادر على الاستمرار في رفض وتعطيل خطط تصفية القضية الفلسطينية كما أنّ هذا السلاح بموقعه وانتشاره الجغرافي على حدود فلسطين وبالنوعية والدقة التي بات عليها قادر على أداء المهام المطلوبة في مسيرة حفظ لبنان والدفاع عنه ومنع استباحة حقوقه، كما هو قادر للعمل في إطار محور المقاومة خدمة لاستراتيجية تحرير فلسطين وإعادة الحق فيها إلى أهله.

لقد بات سلاح حزب الله بعد التطورات التي حصلت في المنطقة والعالم الهدف الرئيسي البديل لكلّ الأهداف التي طرحت منذ العدوان على سورية وبات يشكل بالنسبة لأميركا و»إسرائيل» هاجساً تشكل معالجته والتخلص منه دليلاً على الانتصار في مسعى التصفية، أما الفشل فيه فيكون قرينة على الهزيمة الاستراتيجية.

بيد أنّ نزع السلاح هذا لا يمكن أن يتمّ بفرار من مجلس الأمن وقد جرّبوا حظهم منذ 16 سنة بالقرار 1559 وفشلوا، ولا يمكن أن يحصل بحرب ساحقة تدمّره وقد جرّبوا ذلك في العام 2006 وهزموا، ولا يمكن أن يحصل بالحصار وقطع طرق الإمداد وتجفيف مصادره وقد جرّبوا أولاً بالقرار 1701 ثم كان الأدهى والأعظم الحرب الإرهابية التي شنّت على سورية طيلة 10 سنوات والتي آلت إلى الفشل الذريع والهزيمة والإخفاق في المسّ بالمقاومة التي ارتقت في معارج الخبرة الميدانية والقوة العسكرية كمّاً ونوعاً. لذلك لم يبقَ بيدهم إلا ورقة الفوضى والفتنة في لبنان فتنة تغرق حزب الله وسلاحه في وحول الداخل وتشغله عن أهدافه الاستراتيجية الكبرى في مواجهة العدو الأساسي للعرب والمسلمين «إسرائيل» وراعيتها أميركا. فتنة تمهّد الطريق لـ «إسرائيل» لتنفيذ ما ربها باجتياح جديد.

ومن أجل هذه الفوضى التي تحدثها الفتنة والفراغ كان الأداء الأميركي في لبنان منذ مطلع العام 2019 وكانت زيارة بومبيو إلى بيروت واجتماعاته مع من يأمل انخراطهم في مشروع الفتنة والفوضى التي تحاصر حزب الله، ومن أجل ذلك كان الإعداد لاستغلال «ثورة» شعبية محقة انطلقت في 17 تشرين الأول مطالبة بمطالب معيشية محقة 100%، وهي ثورة تأخرت وكان يجب ان تحصل ضدّ طبقة الفساد السياسي قبل زمن. ثورة أيّدنا ونؤيّد كلّ ما طرحته في أيامها الأولى لأنها ثورة مظلومين محرومين ضدّ ظالمين ناهبين.

بيد انّ المخطط للفوضى فوجئ بحكمة الفريق الوطني في التعامل مع الثورة والفراغ الحكومي الذي تسبّبت به استقالة سعد الحريري، فكانت حكومة جديدة تتبنّى مطالب الثوار وتقطع الطريق على الفراغ وتحول دون انتشار الفوضى وتعقد السير في مسارب الفتنة، ثم جاءت جائحة كورونا لتحدث إخلالاً في الخطط الموضوعة وعرقلة ظاهرة في تنفيذها. وفقد المخطط ثلاثة أشهر ثمينة وشعر بأنّ الوقت يضيق عليه ويهدّد أحلامه التي لم يتبقّ لتنفيذها إلا أشهراً ستة هي ما تبقى من ولاية ترامب المهدّد بعدم العودة إلى البيت الأبيض والذي يرزح ويئنّ تحت وطأة الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية رفضاً للعنصرية في أميركياً وطلباً للعدالة.

انّ لبنان وسورية الآن هدفاً لموجة عدوان أميركي متجدّد من طبيعة خاصة، طبيعة مركبة من عنصرين الأول يتمثل بالتضييق والحصار حتى الاختناق اقتصادياً ولأجل هذا يعدّ لتطبيق قانون قيصر الإرهابي في سورية اعتباراً من 17 حزيران/ يونيو2020، والثاني يتشكل بعمل شوارعي أساسه الفتنة المنتجة للفوضى التي تتلاقى مع الحصار لدفع البلد إلى الانهيار وإغراق السلاح في الوحول لا بل ودماء الداخل فيتحقق المطلوب، ولهذا تتوجه أنظار المخطط وعملائه إلى لبنان من أجل الإعداد للفتنة التي أسند تنفيذها إلى جماعات عرفت بارتباطها بالمشاريع الأجنبية الاستعمارية وتعمل اليوم بأمرة مباشرة من السفيرة الأميركية في عوكر/ بيروت التي حوّلت سفارتها إلى غرفة عمليات لشؤون الفتنة.

انّ لبنان اليوم على أبواب عدوان خطير عنوانه الفتنة والحرب الأهلية الممهّدة لعدوان إسرائيلي، خطة تذكر بما حصل في العام 1975 حيث رفع حزب الكتائب شعار نزع سلاح المقاومة الفلسطينية وافتعل مجزرة عين الرمانة بحق الفلسطينيين وأنتج بيئة قادت «إسرائيل» إلى تنفيذ اجتياحين في لبنان وصلت في الثاني منهما إلى بيروت فأخرجت المقاومة الفلسطينية ثم انقلبت الأمور إلى عملية مراجعة النظام السياسي مراجعة أدّت إلى خسارة حزب الكتائب والطائفة المارونية مواقعهم المتقدّمة في الحكم وباتوا واحداً من ثلاثة شركاء أساسيين يتولون السلطة واقعياً

بيد انّ تلك الفتنة والحرب التي استمرّت 14 عاماً بين كرّ وفرّ تسبّبت في تدمير لبنان وانهيار عملته (كان الدولار يساوي 3 ليرات ووصل إلى 3000 ليرة، أيّ خسرت الليرة 1000 ضعف من قيمتها) كما هجر 50% من اللبنانيين إلى الداخل والخارج في أعظم وأقسى مأساة حلت بلبنان في العصر الحديث، فهل يريد من يخطط للبنان تكرار هذه التجربة الكارثية؟ وهل سينساق لبنانيون لتدمير بلدهم مقابل دراهم معدودة كما فعلوا في العام 1975؟

نطرح السؤال خاصة أنّ تجربة الاعتبار من التاريخ ليست مشجعة، فقد كانت محاولة أخرى في العام 2004 عبر القرار 1559 بالرعاية الأميركية محاولة ترجمت بقتل واغتيالات وحصار فأدّت إلى خروج الجيش العربي السوري ثم استدعاء الجيش الإسرائيلي إلى لبنان في عدوان فشل في تحقيق أهدافه في العام 2006 ثم تكرّرت بفتنة أطفأ نارها حزب الله بحسم الأمور في ذاك اليوم المجيد من أيار 2008.

أننا حتى الحظة نعتقد بأنّ العمل للفتنة والدعوة اليها لن تنجح في إشعال النار في لبنان، كما أنها حتى ولو نجحت فإنّ هناك عوامل تمنع انتشارها وتسهّل إخمادها، عوامل أهمّها قدرة الجيش اللبناني على إحكام السيطرة على الوضع في مناطق الاحتكاك، يضاف إليها قدرة الفريق المستهدف بالفتنة على حسم الأمور سريعاً في مناطق الخطر والاشتعال، دون ان نهمل أيضاً وجود أصوات وطنية عاقلة ترفض الانجرار اليها.

بيد أنه ومع الثقة وحسن الظنّ نرى أنّ على الجميع من رسميين وغير رسميين تحمّل مسؤولياتهم لأنّ الفتنة إذا انفجرت وسعرت نارها قد تفلت الأمور عن السيطرة خاصة أنّ من يقودها دولة عظمى (أميركا) يعمل تحت قيادتها دول إقليمية عربية وغير عربية تجمعهم رغم عدائهم مصلحة «إسرائيل» بنزع سلاح المقاومة. لذلك نرى أنّ وجوب اتخاذ التدابير الاحترازية على صعيد الإعلام والسياسة والميدان لتعقيد عمل الفتنويّين أمر واجب ولنا في ما حصل يوم 6\6\2020 عبرة حيث أدّى فشل الدعوة إلى التظاهر ضدّ سلاح المقاومة إلى انقلاب المظاهرة إلى غوغاء تكسر وتحرق ثم تطلق الإشاعات حول قتل وخطف ثم تثير النعرات المذهبية والطائفيةلكن الفتنة فشلت في ظلّ حكمة الجيش وقوّته ووعي القيادات وحرصهم.

نعم انّ لبنان مستهدف بفتنة كبرى تحاكي ما حصل في 1975 و2005، ورغم انّ الظروف مختلفة والمستهدف مختلف فإنّ الخطر لا يمكن تجاهله، ورغم ثقتنا بقدرة الجيش والمقاومة ومعهما معظم الشعب للتصدّي لها فإنّ الهواجس تقلقنا فيجب الحذر والحذر الشديد.

 

_ أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى