عربيات ودوليات

لماذا قيصر..؟

سماهر الخطيب

انتصرت سورية بالحرب عسكرياً وسياسياً وأمنياً ونفسياً، وجاء الآن «قيصر» كآخر الأسلحة الأميركية ودلالة على انتصار سورية. فلو انهزمت لما جاء «سموّ» القيصر.. إنما تتطلب مواجهته صبراً ووعي سبب إقراره..

وفي العودة إلى التاريخ السوري الحديث، شكلت بداية القرن الحادي والعشرين لحظة انعطاف تاريخية في سورية مع وصول الرئيس بشار الأسد إلى الرئاسة، معلناً نيته إطلاق عمليات لبرلة اجتماعية واقتصادية ومعطياً الأولوية للإصلاحات الاقتصادية بهدف خلق الشروط الملائمة للدمقرطة السياسية اللاحقة، فباتت سياساته هدفاً للسياسة الأميركية التي لم ترد سورية قوية كعهدها.

ولم يحدد الرئيس الأسد، فقط نهج سورية في المجالين الاقتصادي والتقني إنما حدد مسارها الديمقراطي؛ إنما ليس نسخة غربية بل مسار خاص لسورية تستمده من تاريخها وتحترم عبره مجتمعها، وقال في موضوع الديمقراطية «لا يمكننا أن نطبق ديمقراطية الآخرين على أنفسنا، فالديمقراطية الغربية على سبيل المثال، هي نتاج تاريخ طويل أثمر عادات وتقاليد تميّز الثقافة الحالية في المجتمعات الغربية. ولتطبيق ما لديهم علينا أن نعيش تاريخهم مع كل أهميته الاجتماعية، وكما أن من الواضح أن هذا مستحيل، ينبغي أن نمتلك تجربتنا الديمقراطية التي هي خاصة لنا والتي هي استجابة لحاجات مجتمعنا ومتطلبات واقعنا».

خارجياً، بدأت القيادة السورية التي منحت أول الأمر في عملية تطوير البلاد الأسبقية لشؤون الاقتصاد والإصلاحات، تعمل جدياً على وضع استراتيجية سياسية خارجية للبلاد، فأولت اهتماماً لروسيا والصين دولياً، ولإيران وتركيا إقليمياً مع الحفاظ على مكانة سورية في التعاون العربيالعربي وتعزيزه. بهدف تشكيل ائتلاف لاحق يمنع انتشار التركّز الأميركي في المنطقة ويحول دون إعادة توزيع القوى في الشرق الأوسط لصالح هذا التركّز.

وتخطّت سورية حينها، العديد من الصعوبات التي واجهتها منذ 2001، فعززت دعمها للمقاومة في لبنان وفلسطين واستقرّ وضعها الداخلي وحافظت على علاقاتها مع الداخل العراقي وتعاونت مع طهران وتركيا لبناء شبكة إقليميّة. وطيلة الفترة 2001-2006، واجهت سورية زلازل إقليمية عديدة كانت تنذر بالسوء والأخطار الكبيرة عند كل منعطف.

ثم بدأ الوضع بالتحسن منذ خريف 2006 وخرجت سورية من دوامة الأزمات والعقوبات التي فرضت عليها، وأخذت تتعافى تدريجياً وتستعيد حيويتها الإقليمية في الأعوام 2007 و2010 وتجدّدت علاقاتها اللبنانية والعراقية والعربية ومدّت جسوراً مع أوروبا والولايات المتحدة وتعمّق تحالفاتها وواصلت دعمها للمقاومة في العراق ولبنان وفلسطين.

بالإضافة إلى قراءة الرئيس الأسد لحال الفراغ الاستراتيجي الناجمة عن الأزمات التي لحقت بالدور والوجود الأميركيين في المنطقة، مستنتجاً سقوط مفهوم «الشرق الأوسط»، مورداً صياغته لمفهوم الأقاليم الجديدة، هي منطقة «البحار الخمسة»، التي يحدّها بحر قزوين والبحر الأسود والخليج والبحر المتوسط والبحر الأحمر، تصير فيها روسيا وإيران وتركيا ودول أوروبا المتوسطية شركاء في إقليم جغرافي واحد، مخاطره واحدة ومصالحه متقاربة، داعياً لمنظومة تعاون إقليمية بين قواه الكبرى لحفظ الأمن وقيام التعاون الاقتصادي.

تلك الأعمال التي قامت بها القيادة السورية أثارت الغضب الغربي والأميركي الذي كانت له رؤيته الخاصة للشكل الذي ينبغي أن تتطور الأمور عليه.

وكان هدف واشنطن فرض رقابة لصيقة على العمليات الجارية في الشرق الأوسط وكان أحد شروطها المركزية «إضعاف» إيران، إنما سارت الخطوات السورية الموجهة نحو توحيد قدرات الدول الإقليمية الكبرى بالتعارض مع المخططات الأميركية، فوقفت دمشق «عثرة» أمام تحقيق الاستراتيجية الأميركية في المنطقة.

وتمّ التأكيد على التحالف الاستراتيجي بين إيران وسورية في نهاية شباط 2010 قام الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بزيارة هامة إلى دمشق التقى فيها الرئيس بشار الأسد والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، كما التقى رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي رمضان شلح، وأعلن الرئيسان الإيراني والسوري حينها عن «التوحد أمام التحديات والتهديدات وأي حركة يمكن أن ترفع التوقعات في الدراما الدولية في ما يتعلق بأي من الدولتين».

كما أعلن الرئيس الإيراني أن «على العالم أن يعلم أن إيران ستقف خلف الشعب السوري إلى النهاية، وأن الروابط الإقليمية قوية للغاية». وأشارت أحداث اللقاء إلى أن حلفاً استراتيجياً يتكون ويتأكد، ويشكل جبهة جديدة في مواجهة التحالف الأميركي – «الإسرائيلي» ومن يسانده من العرب والقوى الأخرى.

أدرك الأميركيون حينها، أنهم إن لم يوقفوا عمليات توزع القوى الجديد في المنطقة فإنهم مضطرون للتعامل مع إقليم جديد تماماً وذي درجة عالية من التضامن ومن المستبعد أن يكون مستعداً للخضوع لإدارتها بلا قيد أو شرط.

ويمكن لمتتبع السياسة الأميركية تجاه سورية أن يعلم مسبقاً بأنها لطالما دأبت على محاولات «إخضاع» الدولة السورية والتغيير «القسري» للنظام واهتم المحافظون الجدد بإمكانية السعي لفرض تغيير قسري للنظام في سورية. وفي عام 1996 نشرت مجموعة من المحافظين الجدد الأميركيين ومنهم دوغلاس فيث وريتشارد بيرل تقريراً يقدّمون فيه توصيات لرئيس الوزراء القادم آنذاك بنيامين نتنياهو فيما يتعلق بسياسة الأمن القومي «الإسرائيلي» وهي تتضمن «استخدام القوة لتحقيق أهداف إضعاف واحتواء بل وحتى صد سورية».

واليوم تواجه سورية تحدياً اقتصادياً يعود تفاقمه إلى أسباب عديدة أبرزها القانون الأميركي (قيصر)، وعُقوباته التي تريد عرقلة عملية إعادة الإعمار، وتجويع الشعب السوري، على مبدأ «الإشراك بالإعمار مقابل الغذاء».

وفي النظر إلى الداخل السوري يعتبر نجاح الحكومة السورية في تطويق أزمة تراجع أسعار صرف الليرة السورية بغض النظر عن أسبابه التي تلاقت بين المضاربات الداخلية والاستهداف الخارجي، مُؤشّراً أولياً على تعافي سورية الاقتصادي، وقدرة الدولة على القيام بدورها التدخلي بشكل فعّال عبر استخدام سياسة القبضة الحديدية ضدّ المُضاربين، وبعض «حيتان» الأعمال، ومُصادرة مئات الملايين من الدّولارات.

ربما يكون في «بوريس بيريزوفسكي» عرّاب نهب روسيا مثال يحتذى حين انتهى به الأمر لاجئاً سياسياً بعد أن لاحقته روسيا بتهم الفساد وغسيل الأموال.. ولا ننسى أنّ معظم رجال الأعمال السوريين كونوا ثرواتهم الضخمة بسبب الفساد، وتفشي المحسوبيّة، والولاء «الزائف»، فباتوا نسخاً معدّلة عن «بيريزوفسكي» وآن الأوان لإعادة ما نهبوه إلى خزينة الدّولة، عبر الحملة التي لا بد وأن تطالهم في محاربة الفساد التي ستكون أشرس من سابقاتها خاصة في هذا الظرف الصعب.

والإصلاح الاقتصادي ومحاربة الفساد، ليس حديث العهد في سورية. فمنذ تسلّم الرئيس بشار الأسد مقاليد الحكم جعله أولوية واضحة في خطابه، منتقداً بيروقراطية الدولة التي غدت عقدة رئيسية أمام التطور، وأقر بأن التقدم الاقتصادي لم يكن منصفاً وذلك يعود بالدرجة الأولى إلى هيمنة اقتصاد الدولة، قائلاً حينها: «لا تعتمدوا على الدولة. فليست لديها عصا سحرية وعملية التغيير تتطلب عناصر لا يملكها شخص واحد.. السلطة بلا مسؤولية هي السبب في الفوضى».

وتابع قائلاً: «يجب أن نحرر أنفسنا من تلك الأفكار القديمة التي غدت عقبات، ولننجح نحتاج إلى تفكير حديث.. قد يعتقد بعضهم أن العقول المبدعة ترتبط بالعمر، وأنها يمكن أن توجد مع العمر غير أن هذا ليس دقيقاً تماماً فلدى بعض الشباب عقول عقول قوية حية وخلاقة».

بالتالي، باتت أسباب المحاولات الأميركية في إخضاع الدولة السورية واضحة المعالم واستثمرت فيها كل الخيارات سواء أكانت عسكرية أم محاولات فتنوية وحتى الاقتصادية ليكللها قانون قيصر ضدّ الشعب السوري.

سورية التي تستند إلى قاعدة صلبة ستنتصر على «قيصر»، كما كسرت كل الحصارات والعقوبات المماثلة، وأبطلت مفعولها، ووظفتها في تحقيق الاكتفاء الذاتي اقتصادياً وعسكرياً، وحقّقت التوازن والرّدع الاستراتيجيّين مع تحالفاتها، طوال عقود من الزمن وستبقى سورية شامخة بشعبها وحلفائها..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى