أخيرة

عندما نتخلى عن الرعوية ونتبنّى المواطنة

} غدير حمية

عندما كنا صغاراً، في الصفوف الابتدائية تحديداًكان كتاب «التربية الوطنية والتنشئة المدنية» يحكي لنا حكايات وطنية قومية ومدنية جميلةكنا نتأرجح بأمان بين الحقوق والواجبات، نفخر بانتمائنا وهويتنا ووحدتنا، ونتوق أن نصبح كباراً لننفذ طموحاتنا وأحلامنا بأن نصبح أطباء ومهندسين وطيارين ورؤساء جمهوريةأحلام وردية كنا نقلب بها صفحات ذلك الكتاب الذي طالما نسج في خيالاتنا وطناً بدعائم ثابتة قوامها الحرية والمساواة والنزاهة مع رشة من بعض المثاليات، لكنه عملياً كان يقصّ علينا الأكاذيب ويجعلنا نعيش وهماً اسمه وطن صنعناه في مخيّلتنا وأضعنا مفتاحه بسبب قلة إدراكنا وإهمالنا.

كبرنا قليلاً وبدأنا نكتسب مصطلحات جديدة جميلة هي أيضاً، على شاكلة ثورة وانقلاب وانتفاضة ورفض للقمع والطغيان وتغيير، وبتنا توّاقين لأن نكبر علّنا نلحق بركب الثورة ونحقق الإنجازاتولكن عندما كبرنا أخذنا من الثورة مظاهرها المتمثلة بالأغاني والكفيّة والدبكة والخطابات والشعارات الثورية التي تفيض مثالية مع شعلة النار وقبضة اليد وضغط الدم السريع، وغفلنا عن جوهر مفهوم الثورة والمعنى الحقيقي لهذه الكلمة التي من الممكن أن تتحوّل إلى غوغائية وتطرّف إذا ما استخدمت بشكل خاطئ.

الواقع أنّ ما يهمّنا فقط من كلمة ثورة هو أن نوصف بالثوريين، لأنّ ذلك من علامات التميّز.. يلفت نظرنا حمل البندقية والحجارة.. تغرينا الإنتاجات الدرامية عن ثورات جدودنا بوجه الاستعمار.. لذلك نحن لا نزال عالقين في التاريخ، ولم نقوَ على الخروج منه حتى في مناهجنا التعليمية.. يُقال إنّ الثورات تقاس بنتائجها وليس ببداياتها أو تطوّراتها.. لكن تاريخنا الذي طالما تحدث عن البطولات، غفل عما انتهت إليه الثورات من تكريس لمفاهيم بشعة نمت مع أطفالنا وأصبحت جزءاً من زادهم اليومي.. دخلت في سجلاتهم التي يُفترض أن تكون مدنية وتمدّدت إلى عقولهم وتفرّعت.. الطائفية والمذهبية مفاهيم أوهمنا المستعمر أنها غنائم ثوراتنا، لكنها كانت سبباً في توقف أزمنتنا وبقائنا في الماضي.

ومع مرور الزمن بات يستهوينا وضع أنفسنا في خانة المظلومينتشدّنا مصطلحات القهر والظلم والاستبداد والاستعمار والضعف.. وترانا نقول «فعلوا بنا كذا.. يريدون أن يجوّعونا.. هذا ما يطمحون إليه وهذا هو مخططهم». نردّد هذه العبارات في حافلات النقل العمومي.. في أشغالنا.. في حفلات الشواء والسهرات الليلية.. المفارقة أننا نعلم مخططاتهم، ونحللها ليلاً ونهاراً لكننا لا نقوم بأيّ ردّ فعل أو حركات استباقية لحماية أنفسنا ومنع تنفيذها، سوى أن نصمت وإذا فاض بنا نثور وندمّر. وإذا سألت أحدهم «من هم هؤلاء الذين تتحدث عنهم؟»، يسارعك القول «المسؤولون الكبار».

اللبنانيون يتراشقون الاتهامات على الدوام.. وفي غضون ذلك ضاع البلد وسرقه «الكبار».. من هم هؤلاء «الكبار» وكيف نسمح لهم باغتصاب حقوقنا وتجويعنا.. ألم ينتموا إلى صفوفنا قبل أن يصبحوا «كباراً».. والأنكى أنّ الجميع في هذا البلد يريد أن يكون له نصيب من الحكم ويسعى لأن يكون عضواَ في لائحة «الكبار»، وإذا ما تمّ إقصاء فرد ينتمي لجماعة معينة عن مواقع السلطة، تسارع هذا الأخيرة إلى امتطاء صهوة الظلم المجبول بالطائفية وتقول «يعتبروننا أقلية.. يريدون نفينا»، وهكذا دواليك يستمر لعب دور المظلوم في مسلسل «الطوائف المخيفة».

كلّ ما سبق يوصلنا إلى نتيجة مفادها أن ليس من منطقة وسطى ما بين الظلم والثورة في لبنان، فإما انقلاب دموي على المسؤولين من قبل دائرة معينة من الجمهور، مقابل إفراط بحقوق الناس إلى درجة إعدامهم كلّ سبل العيش، أو الصمت مع استمرار الإفراط بحقوق الناس.

ما يثير الرعب أنّ مصطلح الثورة في هذا البلد بات مرتبطاً بالتدمير والخراب.. في حين أن تغيير الأمر الواقع يلزمه الحكمة، وأي ثورة تحتاج إلى أيديولوجيا ومن الضروري أن يحكمها المنطق، فما من ثورة عفوية جاءت بنتيجة إيجابية.

المنطق يقول إنّ التغيير السلمي البنّاء أساسه الإصلاح السياسي الذي من الممكن أن يحقق درجة معينة من النجاح. ومن شروط نجاح هذا الإصلاح أنه لا يمكن للجميع أن يحكم، إذ إنّ أيّ حكومة تجتمع فيها جميع الطوائف سيكون مصيرها الفشل، لأنها للأسف ستكون عبارة عن طاولة زهر يحرك أحجارها زعماء الطوائف الذين أوهموا رعيتهم أنهم «كبار».

خلاصة القول إنّ التغيير السلمي الحقيقي يكون فقط عندما يقرّر اللبنانيون أن يستقيلوا من رعويتهم ويتبنوا مبدأ المواطنة، أن يذهبوا أحراراً إلى صندوق الانتخابات ليوصلوا إلى موقع «الكبار» أشخاصاً يستأهلون فعلاً أن تطلق عليهم كلمة «كبار».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى