ثقافة وفنون

الشاعرة دارين حوماني شكّلت عالمها الخاص في رحلة الحروف… ونثرت شعراً يحاكي الحكايات ‏والملاحم ‏ وزارة الثقافة تعمل بموازنة هزيلة لا يمكنها تنظيم ‏مهرجان ثقافي واحد سنوياً لا يهمّ في النهاية كيف نكتب، فنحن نكتب فقط ندوبنا ‏النفسيّة والاجتماعيّة بأي شكل تتيحه المخيّلة لنا..‏

 

} هاني الحلبي

تستمدّ تجربتها من بيئتها، تعثّرت حيناً وقاومت أحياناً وثابرت دائماً حتى أنتجت في الشعر أجمله وفي الكلام العذب رونقه وفي الصحافة أصدقها. تعبّر الشاعرة والزميلة دارين حوماني بخطوات أقرب إلى اللطافة الخفيفة على القارئ وبتواضع عفيف على قلبه عن حكايتها وذاتيتها، وأناها.

«البناء» كان لها حديث مع الشاعرة دارين حوماني ننشر تفاصيله سلة أسئلة وأجوبة.    

بماذا نعرّف قراء «البناء» إلى الشاعرة دارين حوماني؟

ـ كل إنسان هو نتاج بيئته الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية ربما أنا أيضاً لم أفعل شيئاً في حياتي سوى الوقوع في كل التأثيرات المحيطة بي والتي تمرّ كخيطان رفيعة في كتاباتي لم أتمكن إلا أن أكتب من خارجها عنها، أكتب قصائد نثر ليست إلا سيراً ذاتية لي وللشارع والمقهى وبيروت والقرية وأبي وأمي وكل ما مرّ عليّ والتي أصبحت كشواهد في كتبي ..

لماذا اخترتِ الأدب والشعر ميداناً ثقافياً؟ هل أنتِ نادمة على ارتكابك هذا الجمال؟

ـ في الحقيقة، إن الآداب والفنون هي التي تختارنا وليس نحن من نختارها، استطعت عبر الكلمات أن أخلق عالمي الخاص الذي لا يشبه عالمنا المخيف بجحيمه، استطعت أن أداوي نفسي، أن أكون على الأقل في مكان واحد على هذه الأرض كما أنا، ولا أظنّ أننا نندم على ما يشكّل علاجاً لأوجاعنا.

كيف بدأت علاقة الشاعرة حوماني مع ألق الكلمات ودهشة الحروف؟ ما العوائق؟ وكيف تمّ التغلب عليها؟

ـ منذ سنين طفولتي الأولى فتشت عن الكتاب، بدأت القراءة قبل أن أدخل المدرسة، وهذا حقيقي، أن تحلم بمكتبة واسعة في بيتك وأنت لم تتجاوز العاشرة من العمر، كان هذا حلماً فعلياً لطفلة تفتش عن المكتبات في أحياء غير صالحة للثقافة، خصوصاً أيام الحرب الأهلية.. لمحاتي الشعرية بدأت تظهر باكراً في النصوص التي تطلبها معلمة اللغة العربية، بعد ذلك كبرت وإذ بي ألجأ الى قراءة مختلف الأجناس الأدبية فأتأثر بمحمود درويش وأدونيس وفيودور دوستويفسكي وألبير كامو وروجيه غارودي وإدوارد سعيد وآخرين، بعد أن تقرأ وتقرأ ثمة شعلة صغيرة في داخلك ستتوسّع وستشعر أن ثمة الكثير لتقوله، ستتأثر بمن قرأت، ومع الوقت سيصير لك أسلوبك الخاص. العوائق هي انشغالات الحياة، وهي عدم القدرة النفسية على تكوين علاقات شخصية توصل قلمك الى مكان أفضل، وهذا ما جعلني أشعر أني تأخرت كثيراً عن الآخرين.

الحب والموسيقى والرسم..

عناصر الجمال الوحيدة على هذه الأرض

هناك مواقف جعلتك تكتشفين نفسك، فإن لم تكوني أنت ماذا وددتِ أن تكوني؟

ـ كتبتُ ذات يوم «أعيش حياة ليست لي» أنا أعيش حياة إمرأة بالكاد أعرفها، دارين هي في مكان آخر، الشيء الذي يشبهني هو حين أكتب، أود أن أجد الوقت لأكون نفسي أكثر عبر الحب والموسيقى والرسم.. عبر عناصر الجمال الوحيدة على هذه الأرض.

بالمفهوم الشعبي الشعر «ما بيطعمي خبز»وربما هو كذلك، ما الرسالة التي تنشدينها من الشعر والأدب؟

ـ لا أريد أن نحمّل الشعر والأدب أكثر من حمله، بلادنا هي التي جعلت من الشعر لا يُطعم خبزاً، أنا أناشد أصحاب القرار أن يعطوا كل ذي حقٍ حقه، فكما هناك ميزانيات بأرقام مخيفة لكافة الوزارات يجب أن يكون لوزارة الثقافة ميزانية معقولة تدعم فيها الموسيقيين والفنانين التشكيليين والشعراء والكتّاب، هل تعلم مدى فقر هذه الوزارة، لا تتمكّن وزارة الثقافة أن تنظّم مهرجاناً ثقافياً واحداً في العام، ليس لديها برامج تحفيزية للأدباء وحتى للشباب، ثمة إنجازات محدودة لا شكّ، إنني أناشد المسؤولين وأشفق على الشعر.

بين زحمة الأنماط التقليديّ والمنثور وما بعد الحداثة وصولاً للهايكو والوجيز، كيف تحدّدين نمط قصيدتك وما طقوس الكتابة وهل أنت تكتبين أم أن قصيدتك تستكتبك؟

ـ أعتقد أن كل من يكتب الشعر بأنماطه المختلفة كانت له بداية مع القصيدة العمودية، كنت لا أزال في الصفوف الثانوية حين بدأت أجرّبها، كانت الموسيقى هي التي تحرّكني، بعدها وجدتني أتأثر بشعراء قصيدة النثر وخصوصاً القصائد المترجمة الى لغة الضاد، فأخذتني من القصيدة الكلاسيكية الى مكان أكثر حريّة وقدرة على التعبير دون قيود، نصوصي ليست قصيرة وتنحو نحو السردية إلا في بعض الأمكنة أكتب شذرات قصيرة لا أدري ماذا يمكن أن نسمّيها ومضة أم هايكو أم التوقيعة كما يسمّيها الشاعر عز الدين المناصرة. لا يهمّ في النهاية كيف نكتب، نحن نكتب فقط ندوبنا النفسية والاجتماعية بأي شكل تتيحه المخيلة لنا..

لتوفير دراسة الفنون بأسلوب سهل ممتنع

التربية على الجمال مهمة وطنية جليلة لأية وزارة تربية وثقافة. كيف ترين الى مناهج التعليم وواقعها ومتى تصبح برامج تعليمنا المدرسي والجامعي الأكاديمية برامج تربية إنسان جديد؟

ـ أعتقد أنه لا يزال الكثير أمام مجتمعاتنا العربية لتنجح في تنشئة مدرسية طبيعية، نحن نضخّم الأشياء في رأس الطالب في حين يجب أن يكون الموضوع على عكس ذلك، على المدرسة أن تتيح للطالب كل ما يمكن أن يكونه في المستقبل بأسلوب السهل الممتنع وهو عكس الواقع الحالي. عندما بدأت المدارس تُدخل الموسيقى والمسرح والرسم الى مناهجها، أول ما يلفتك هو النظام التعليمي الجاف، فمثلاً بعد خمسة عشر عاماً من تعلّم الموسيقى نتفاجأ أن الطالب لم يرَ البيانو إلا في الصور، في حين يجلس الطالب أمام البيانو في أول سنة دراسية في أوروبا وأميركا. تنقصنا مناهج تطبيقية تعمل على تنشئة مدرسية صحيحة وتقدّم الأشياء بجماليّة وبحبّ.

ينقصني التفكير بالمتلقي

لديك باقة واسعة من إصدارات شعرية وغير شعرية، هل نعرّف متابعينا عنها؟ هل ندمت على إصدار ما؟ لماذا؟

ـ أصدرت خمسة دواوين شعرية هي قصائد نثر، بالتأكيد تجربتي الشعرية تغيّرت من المجموعة الأولى الى المجموعة الخامسة، لا أندم لأن كل مجموعة تحكي حكايات دارين مع نفسها ومجتمعها والآخرين بأسلوب عفوي بسيط أحياناً ووحشي أحياناً أخرى. تتجه كتاباتي نحو الكآبة العميقة وهو ما قد لا يروق لقارئ الشعر خصوصاً أننا بتنا أمام جمهور يحب كل ما هو خفيف ويبعث على التفاؤل ولا تروق له قسوة الكلمات. في النهاية نحن نكتب أنفسنا كما هي دون أن نفكر بالآخر وربما يجب عليّ تصحيح ذلك، فما ينقصني هو التفكير بالمتلقي.

قد تضغط المهنة على بذور الإبداع

كيف وفقت بين تجربة الشعر ومعاناة الحروف وتجربة الأمومة وربما لديك التزامات وظيفية أو مهنية يومية؟

ـ ربما لدى كل واحد منا التزامات تفرضه عليه شروط الحياة، انشغالاتي عديدة، إنها تأخذ الكثير من وقتي، وخصوصاً حين تجد نفسك مجبراً على القيام بمهنة لا علاقة لها بك، تقوم بها لأجل أن تبقى على قيد الحياة بالمعنى المادي للكلمة، لكن شئنا أم أبينا إنها تؤثر حتى على احتمالات الإبداع الممكنة، كثير من المبدعون انزاحوا عن مواهبهم العميقة لأسباب معيشية، هي إحدى قسوات الحياة التي تجعلنا نعيش انعزاليتنا ونشعر بالوحدة أينما كنا، أحاول أن أجد دائماً متّسعاً لهذه الكلمات التي تتدافع في رأسي كي أكون أنا في مكان ما..

كيف ترين تجربة الصالونات الثقافية وعوامل استمرارها وما حقّقت؟ وهل لديك تشبيك مع مؤسسات مماثلة؟

ـ تجربة الصالونات الثقافية منذ بدأت كان لها دائماً منحاها الإيجابي ويرى آخرون أن لها منحًى سلبياً عبر امتلاء الساحة الأدبية بنصوص هزيلة مصنفة «شعراً» ما كرّس فكرة استسهاله. أنا لا أرى غير أنها مؤسسات ثقافية تحاول أن تجد متّسعاً للجمال في هذا الجو المرعب الذي نعيشه، لقد تمكّنت الصالونات الثقافية من خلق حالة ثقافية الى حدّ ما في بلاد تعاني من أزمة ثقافة، حتى لو تقلّص دورها وكيفما كانت فإنها تجمع المثقفين على طاولة واحدة، تجمع الأجيال المختلفة التي هي بحاجة فعلاً للتلاقي وتبادل الأفكار وحتى مناقشة الحالة السياسية، أنا منسّقة في منتدى شهرياد الثقافي، الذي يرأسه الشاعر نعيم تلحوق، والذي تمكّن من الإضاءة على عديد من المواهب الشعرية والفنية، أمسكها بيدها وأخرجها الى مكان أكثر اتساعاً، ولا أظن أنه علينا أن نؤسّس صالوناً ثقافياً للمكرّسين فقط، أولئك الذين كان لهم مجدهم الثقافي في حقبة هي الأفضل في تاريخ العالم الأدبي العربي، ثمة ما يريد الجميع قوله، الأجيال القديمة والجديدة، وهذه الصالونات تتيح للجميع قول ما يريد ولن يعلق في أذهاننا إلا ما هو جدير بالاستمرار..

بيروت امرأة اغتصبها أمراء الحرب

يواجه لبنان عقوبات ظالمة بحجة سلاح المقاومة يمكن وصفها بحرب اقتصادية شاملة وهناك حرب بالإعلام وحرب بالتربية وحرب بالفساد كيف نحارب بالشعر والأدب ليبقى وطننا وطن الجمال؟

ـ قد لا أجد بلداً يعاني كما يعاني لبنان، هذا الرأس الصغير الذي يمتد على طول 220 كلم ليس أكثر تمكّنت طائفيته من تحويل حياة قاطنيه الى جحيم، نعم جحيم، مكان تتحارب فيه الدول الكبرى ويعبث فيه أزلام الحرب الأهلية الذين لم يكتفوا بتدميره بل نهبوه بعد ذلك، بيروت هي إمرأة عذّبوها ثم اغتصبوها، الظلم سقط على لبنان من الخارج والداخل، آلام بلادنا الخارجية والداخلية يخرج منها الشعر كماء هادئ يورق أزهاراً، الشعر والفنون الأخرى هي الأصوات الوحيدة التي توقظ الجمال لذلك ما هو مطلوب أن لا نقتلها، لقد تمكّنوا من تشويه وجوهنا وجعلها تتشقّق داخل سجون ابتكروها لنا، المطلوب أن يتكلم المثقف والفنان والشاعر بما هو سياسيّ أيضاً لأنهم يمثّلون النقاء الوحيد على هذه الأرض.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى