أولى

بوتين والنظام العالميّ بمناسبة الذكرى الخامسة ‏والسبعين لنهاية الحرب العالميّة الثانية

 زياد حافظ*

 

يشهد العالم صعود محور الكتلة الأوراسية بقيادة روسيا والصين ومعها دول منظومة شانغهاي ومحور المقاومة وتراجع محور تقوده الولايات المتحدة ومعها دول الاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية وطبعاً الكيان الصهيوني. هناك أسباب موضوعية لتلك الحركة الصاعدة عند في المحور الأول والمتراجعة في المحور الثاني بُحثت في مجالات عديدة تشمل التحوّلات في البنى السياسية والاقتصادية والعسكرية والسكّانية لسنا في إطار تردادها. لكن بالمقابل هناك عوامل ذاتية دفعت بتلك التحوّلات وتثبّت وتيرة حركتها وإيقاعها. فالغرب بشكل عام ليس في حالة تراجع وأفول فحسب، بل في حالة انحطاط عام وانحطاط أخلاقي بشكل خاص. من ضمن ظواهر الانحطاط رداءة القيادات السياسية في الغرب وجدارة الكفاءات السياسية في الشرق.

في هذا السياق يطلّ مرّة أخرى الرئيس الروسي على العالم ليفاجئه بنوعية الرؤية السياسية المبنية على معرفة دقيقة للتاريخ المعاصر وعلى إدخال المنظومة الأخلاقية في المقاربة السياسية في استشرافه للمستقبل. بينما قيادات الغرب تغرق في الأكاذيب والمغالطات والصلافة الناتجة عن الانحلال الأخلاقي القائم كمنظومة متكاملة في دول الغرب وكأنها نموذج للتقدّم والترقّي. فالشتائم أصبحت «صراحة» والأكاذيب «دهاء» والإباحة «إبداع» والفساد «شطارة»! لكن القيادة في المحور الأوراسي ليست كذلك. فالرئيس الروسي استغل الذكرى الخامسة والسبعين لنهاية الحرب العالمية الثانية ليطلّ على العالم بمقال طويل (9000 كلمة) هو بمثابة وثيقة تاريخية يحرّرها قائد سياسي ما زال يمارس الحكم وليس من موقع المتقاعد أو المتفرّج. فكل عام يعرض الرئيس الروسي مقاربة للواقع السياسي الدولي سواء من منبر الأمم المتحدة أو في اجتماع الدول في ميونيخ أو بمناسبة عرض حال الأمة على المواطنين الروس. فلا ننسى خطابه في ميونيخ سنة 2007 حول الأمن حذّر من دور الولايات المتحدة في خلق عدم الاستقرار في العالم. كما لا ننسى خطابه للأمة في روسيا سنة 2018 كشف خلاله عن السلاح الكاسر للتوازن مع الغرب. أما خطابه سنة 2019 فيعلن فيه عن التقدّم الاقتصادي بل حتىّ الرخاء الذي وصل اليه الاتحاد الروسي رغم العقوبات. وفي آذار 2020 عرض الرئيس الروسي رؤيته حول الإصلاحات الدستوريّة التي يريدها حيث ينقل فيها بعض صلاحيات الرئاسة إلى مجلس النوّاب.

أما المقال المذكور فأهميته تكمن في نواحٍ عدة. أولاً، يظهر الرئيس الروسي كمؤرخ دقيق يحرص على تصحيح المغالطات التي بدأت تروّجها بعض الدول حول دور الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية. فمؤخراً ظهرت كتابات تقلّل من دور الاتحاد السوفياتي في النصر بل يذهب البعض في بولندا مثلاً إلى اعتبار الاتحاد السوفياتي الحليف للنازية وهذه ليست أكذوبة فحسب بل تزوير فاضح للتاريخ. ويسهب الرئيس الروسي في ذكر الوثائق التي تبرز تخاذل القيادات الأوروبيّة تجاه تشيكوسلوفاكيا بعدما تعهّدت بحمايتها من الضم لألمانيا كما أظهر التعاطف البولندي مع النازي تجاه اضطهاد اليهود. وكأن الرئيس الروسي يغمز من تقدّم الفاشية في هذه الأيام في بولندا وبحماية وتشجيع الولايات المتحدة. فالوثائق الدبلوماسية تشير بوضوح إلى أن البولنديين كانوا آنذاك معادين لليهود كما هم اليوم. لكن اتهام الاتحاد السوفياتي بالتحالف مع النازية أمر باطل بكل معنى الكلمة. ويعالج الرئيس الروسي مسألة اتفاق عدم الاعتداء المتبادل الذي وقّعه كل من وزير الخارجية السوفياتي مولوتوف والوزير الألماني آنذاك فون ريبنتروب أنه من الأخطاء التي ارتكبها الاتحاد السوفياتي والتي اعترف بها سنة 1989. كما يشير بوتين إلى تجاهل اتفاقات مماثلة بين حكومة أوروبا الغربية والنظام النازي في المانيا منها بولندا.

لكن ما يعرضه الرئيس الروسي هو أن الاتفاق تضمّن الاعتراف بسلطان الاتحاد السوفياتي على مقاطع واسعة من بولندا لكنه لم يدخل إليها حرصاً على سيادة بولندا. كما يشير إلى إعادة الاتحاد السوفياتي إلى دول البالتيك لعدد من المقاطعات كانت قد احتلّتها بولندا. وبالتالي احتلال بولندا من قبل المانيا النازية كان بمثابة الاعتداء على الاتفاق بين الاتحاد السوفيتي والمانيا. هذا وقد أشار ان دخول دول البالتيك إلى منظومة الاتحاد السوفياتي كان تعاقدياً وليس بقوّة السلاح. فحرص الاتحاد على الحفاظ على اللغات المحلّية وإدارة الشؤون الخاصة بها. ما أراده الرئيس بوتين في تذكير هذه الوقائع هو أن العداء الظاهر في كل من بولندا ودول البالتيك مدفوع من قبل الولايات المتحدة لأن التاريخ لا يدل على سوء تعامل معها. بل العكس، بولندا كانت في كثير من الأحوال معادية للاتحاد السوفيتي قبل الحرب العالمية الثانية.

أما الميزة الثانية لذلك المقال فهو مفتاح لقراءة عقل الرئيس الروسي. فالحرب التي تستسهل بعض النخب في الغرب في طرحها كحلّ لفضّ الخلافات أو لتنفيذ أجندات توسّعيّة أمر مريب عند الرئيس الروسي. يبدأ مقاله بذكر تأثير الحرب العالمية الثانية على العائلات الروسية بما فيها أسرته، وأن الذاكرة للحرب البغيضة التي ذهب ضحيّتها أكثر من 25 مليون روسي ليست من الأمور التي يستطيع أي روسي وأي مسؤول روسي أن يستهزئ بها. فلمّا تعمّدت القيادات الأوروبية مع القيادة الأميركية عدم دعوة الرئيس الروسي لحضور احتفالات النصر في فرنسا في 2019 فكانت بمثابة إهانة متعمّدة للشعب الروسي وذاكرته. ولن يتسامح أي روسي وأي مسؤول روسي مع تلك الإهانة الجماعية. وإذا كانت الخسائر البشرية في الغرب لا تتعدّى أفق المصالح الانتخابية للسياسيين، أي أنها تردعهم نسبياً، فهذه الخسائر الضخمة ما زالت حيّة ومحفورة في ذاكرة ووجدان المواطن والمسؤول الروسي على حدّ سواء. لذلك قرار الحرب عند روسيا قرار صعب ويُتخّذ ببطء كبير وبعد التعمّق في الأسباب الموجبة وبعد البحث عن سبل تجنّبها. لكنّ القيادات الروسية عندما تحزم أمرها تنفّذه بدقّة.

الميزة الثالثة لمقال الرئيس الروسي هو التعرّف على مقاربته للتاريخ المعاصر وخاصة ما بين الحربين العالميتين التي انبثق عنها النظام العالمي الذي نعيش فيه. فمسبّبات الحرب العالمية الثانية تعود إلى سوء تقدير القيادات المنتصرة في الحرب العالمية الأولى في التعامل مع المانيا المهزومة. ويردّد بوتين في مقالته مقولة قائد القوّات المتحالفة الجنرال فردنان فوش أن معاهدة فرساي التي عقدت بعد الحرب العالمية الأولى لم تكن معاهدة سلام بل هدنة عسكرية لن تطول أكثر من 20 سنة. كان محقّا بتنبوئه، حيث اعتبر الجنرال الفرنسي بنود المعاهدة مجحفة ومهينة للشعب الألماني. فكانت الأرضية لوصول هتلر والنازية إلى السلطة في ألمانيا. فالحرب العالمية الثانية تقع مسؤوليتها على القوى الحليفة المنتصرة في الحرب الأولى التي أساءت التعامل مع ألمانيا ولم تكترث لعصبة الأمم التي أنشأتها فيما بعد والتي لم تستطع أن تحلّ أي مشكلة.

كما أن تخاذل بعض الدول كفرنسا والمملكة المتحدة بإيفاء التزاماتها تجاه تشيكوسلوفاكيا أتاحت الفرصة لهتلر لضم تشيكوسلوفاكيا وفي ما بعد احتلال بولندا. ويحمّل بوتين حكومة بولندا آنذاك مسؤولية إفشال المحادثات التي أرادها الاتحاد السوفيتي لإقامة جبهة مناهضة لهتلر. فكانت متعاطفة معه في اضطهاد اليهود كما يشير بوتين إلى رسائل سفير بولندا لألمانيا. ويعتبر مسؤولية بولندا ناتجة عن الضغوط التي مارستها بعض الدول الغربية لعدم التعاون مع الاتحاد السوفياتي. ويتكرّر الواقع في هذه الأيام! الرأي العام في الغرب كان منقسماً بين أولوية الخطر: الفاشية أو الشيوعية. لا ننسى أن فرنسا شهدت وصول الجبهة الشعبية برئاسة ليون بلوم إلى الحكومة سنة 1936 وفي ذروة الحرب الأهلية في إسبانيا بين الجمهوريين والشيوعيين من جهة والفاشيين من جهة أخرى. في مطلق الأحوال يعتبر بوتين أن مسؤولية وقوع الحرب بين المانيا والدول الغربية في أوروبا تعود إلى حكومات تلك الدول كما على الأطماع التوسّعية لهتلر.

من جهة أخرى يشير بوتين إلى أن النجاحات لغزوات الجيش الألماني تعود إلى معرفة القيادة الألمانية أن الجيوش الفرنسية والبريطانية لن تتحرّك إزاء التحرّك الألماني! وهذا أكثر من غمز تجاه مصداقية تلك الدول وعدم كفاءتها إن لم نقل فسادها! ويستند إلى اعترافات قائد القوّات الألمانية الفرد يودل في محاكمات نورمبرغ الذي أشار إلى التفوّق العددي وفي العتاد للجيوش الأوروبية مقابل ضحالة العدد والعتاد للجيش الألماني ما يؤكّد فساد الحكومات الأوروبية الغربية.

الميزة الرابعة في مقاله هو استشراف النظام العالمي الذي يجب أن يقوم. فأسس هذا النظام تكمن في إعادة الاعتبار إلى القانون الدولي واحترام ميثاق الأمم المتحدة وخاصة آلية مجلس الأمن كوسيلة فريدة من نوعها لمنع الحروب الشاملة. ويندد بعدم مسؤولية بعض الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن في عدم الاكتراث للمواثيق والقوانين وكأنهم يحنّون إلى العودة إلى ظروف عصبة الأمم، أي إلى ثقافة الاجتماعات الفارغة والتي لا تلزم أحداً! ويعتبر أنها مسؤولية كبيرة على الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية الحفاظ على النظام الدولي القائم بعد الحرب ويدعو زملاءه في فرنسا والولايات المتحدة والصين والمملكة المتحدة لاجتماع تُبحث فيه معظم القضايا الساخنة وفي أسرع وقت ممكن. ويعتبر أن الاجتماع المرتقب سيشمل المبادئ المشتركة التي تحكم العلاقات بين الدول وخاصة في قضايا الأمن ومكافحة الإرهاب والتطرّف وسائر التحدّيات المشتركة. ويخصّص مكانًا هاماً للاقتصاد العالمي وما يواجهه من تحدّيات ناتجة عن جائحة الكورونا وضرورة اتخاذ الإجراءات التي تصون صحة المواطنين. كما يرفض تحويل قضية الجائحة إلى رافعة سياسية للضغط والسيطرة. ويشدّد أيضاً على ضرورة مقاربة قضايا البيئة والتغيير المناخي وأمن الفضاء المعلوماتي. هذه هي القضايا التي يدعو الرئيس الروسي إلى معالجتها في مقاله حول الحرب العالمية الثانية ويربطها بالدروس المستوحاة من الحرب العالمية الثانية. فبالتعاون يمكن حلّ المشاكل وليس بالتفرّد والهيمنة.

هذه بعض المحطات التي ذكرها الرئيس بوتين في مقاله. الأهمية لا تقع فقط في تصحيح المعلومات التاريخية التي يحاول الغرب تزوير حقائقها بل الدليل على نوعية القيادة في المحور الروسي الصيني. فالتاريخ حاضر دائماً في مقاربة الأوضاع ويدلّ على الحرص على التعلّم من الماضي لتجنّب الأخطاء في الحاضر والمستقبل. وهذا على ما يبدو غير موجود حالياً في الغرب. ليت القيادات الغربية تتعظ من ذلك وكذلك القيادات العربية، ولكن في زمن الانحطاط هذه الاعتبارات أبعد مما تكون عن ذهن النخب الحاكمة التي تتلهّى بالصراع على سلطة قد تزول من تحت أقدامهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى