اقتصاد

أزمات لبنان وتداعياتها…

 

} د. هيكل الراعي*

لا يختلف اثنان على أنّ لبنان يعيش هذه الأيام مجموعة من الأزمات المعقدة والمتشابكة، في ظلّ احتدام الصراع في منطقة الشرق الأوسط بين القوى الإقليمية والدولية. وإذا كان من الصعب التنبّؤ بمسارات الصراع الإقليمي والدولي وبالتطورات التي يمكن أن ترافقها، فإن محاولة فهم آفاق ما يجري على الساحة اللبنانية يؤدي إلى استنتاج أوّلي يقول بأنّ لبنان، الدولة والمجتمع، يعيش مرحلة تحوّلات جذرية تقطع مع الماضي بكلّ تفاصيله وتؤسّس لقيامة لبنان جديد. فما هي أبرز التحوّلات المرتقبة؟

1 – يعي اللبنانيون بكل مكوناتهم الطائفية والسياسية أن العيش المشترك بين هذه المكوّنات يمر في أزمة عميقة، وأن التفاهم بينها على صيغة جديدة أو ميثاق وطنيّ جديد أصبح ضرورة ملحّة. فالميثاق الوطنيّ الذي صيغ بداية أربعينيات القرن الماضي والذي قام على قاعدة «لا للشرق ولا للغرب» سقط. واتفاق الطائف الذي وضع عام 1989 عقب الحرب الأهلية المدمرة للحجر والبشر، يعاني من تصدّعات وخلافات على تطبيق بنوده. والمواضيع الخلافية بين هذه المكونات أصبحت كثيرة ومتنوعة، وهي منعت وتمنع بلورة هوية وطنية جامعة. فاللبنانيون مختلفون ليس فقط على سلاح المقاومة في مواجهة العدو الاسرائيلي، بل على شكل النظام السياسي والإداري (لامركزية أو لامركزية موسعة أو فدرالية)، وعلى إلغاء الطائفية أو الطائفية السياسية، وعلى الدولة المدنية وفصل الدين عن الدولة، وعلى إقرار الزواج المدني الإلزامي أو الاختياري، وعلى القانون الموحّد للأحوال الشخصية، وعلى توزع السلطات السياسية والإدارية بين الطوائف وصلاحية كل سلطة، وغير ذلك من المواضيع التي تدور حولها نقاشات تتميّز بالحدية والتطرف بعض الأحيان. فهل ستقدم قيادات الطوائف والجماعات اللبنانية على وضع أحلامها ومشاريعها بالتفرّد والانعزال والاستقواء والتسلط والهيمنة جانباً وتبادر من خلال حوار وطني صريح ومسؤول وجدّي لاستنباط ميثاق أو صيغة وطنية جديدة تطمئن الخائفين ولا تسيء الى معتقدات الجماعات، وتؤمّن مشاركة فاعلة متساوية في كلّ القرارات الوطنية والمصيرية، أم ستكتفي هذه القيادات بالمراهنة على تطوّرات إقليميّة يمكن أن لا تكون لصالحها ولا لصالح لبنان الذي لا يستطيع العيش والبقاء موحداً في حال هزيمة أو انتصار أحد مكوناته الرئيسية.

2 – استفاد اللبنانيون خلال العقود الماضية من تدفقات مالية ضخمة ساهمت في تأمين أنماط عيش واستهلاك تتميّز بالبحبوحة والرفاهية النسبية، وتختلف عن الأنماط التي كانت تعيشها الدول العربية المحيطة. وقد ساعدت في ذلك عوامل كثيرة بينها: طبيعة النظام الاقتصادي الحر، والانقلابات العسكرية التي شهدتها أغلب الدول العربية مع ما رافقها من عمليات تأميم للممتلكات الخاصة مما أدى إلى هجرة أدمغة ورساميل عربية إلى لبنان، وفورة العائدات النفطية التي استفاد منها القطاع المصرفي اللبناني محققاً قفزات نوعية عالمية، وتمايز قطاعي التعليم والصحة إضافة إلى جمال الطبيعة ومخزون المياه.

أضاع اللبنانيون هذه المكتسبات عندما حملوا السلاح عام 1975 وانطلقوا في مغامرات ومراهنات عسكرية، فكانوا أدوات طيّعة في أيدي المصالح والمشاريع الخارجية، مما أدى إلى تدمير كل ما بُني في مرحلة البحبوحة والازدهار. ومع انتهاء الحرب وتوقيع اتفاق الطائف، الذي أعاد توزيع السلطة بين الطوائف وفق موازين القوى الجديدة، لم يستفد لبنان من المساعدات والأموال التي قدّمت لإعادة إعمار ما تهدّم وتجديد البنى التحتية، لأن مكونات السلطة الحاكمة، التي كانت دمّرت وقتلت وهجّرت اللبنانيين بفضل سياساتها، لم تتعلم من دروس الحرب، واستمرت في عمليات الهدر والنهب والسرقة مراهنةً على حلول للصراع العربي الإسرائيلي ستحمل المساعدات الضخمة للبنان. ومقابل تعثر وتلاشي هذه الحلول كانت السلطة الحاكمة، بالتعاون مع رعاتها الإقليميين، تُمعن في عمليات الاستدانة لتمويل فسادها وسرقاتها مما أدى إلى تراكم الدين العام ليصل في الشهور الماضية إلى حوالي 100 مليار دولار. لقد اعتمدت الحكومات المتعاقبة سياسة الاستدانة غير المدروسة، وفي ظلّ تلكؤ الجهات المالية الدولية عن الاكتتاب في سندات الخزينة، ضغط مصرف لبنان على المصارف التجارية وأغراها بالهندسات المالية وبالفوائد المرتفعة، مما دفعها إلى المغامرة بودائع اللبنانيين، المقيمين والمغتربين، وبجنى أعمارهم، وكذلك بودائع الأشقاء العرب (تقدّر ودائع السوريين في المصارف اللبنانية بحوالي 30 مليار دولار)، وتوظيف القسم الأكبر من هذه الودائع في سندات الخزينة اللبنانية. وعندما اشتدّت الضغوط والعقوبات الأميركية المالية على لبنان، مستهدفةً المقاومة وسلاحها، ظهرت هشاشة الوضع المالي وانهار القطاع المصرفي، الذي كان يشكل عصب الاقتصاد اللبناني، بعد امتناع المصارف عن إعادة الودائع التي بحوزتها إلى أصحابها مضحيةً بسمعتها وبثقة المودعين بها. كما ساهمت هذه المصارف، بالتعاون مع مصرف لبنان، في إخراج مليارات الدولارات تعود لمالكيها أو لسياسيين فاسدين لإيداعها في المصارف الأجنبية.

فهل كانت المصارف ومصرف لبنان شركاء في مشروع أميركي لنشر الفوضى بدأ تحضيره منذ سنوات يستهدف سلاح المقاومة ويؤمّن المناخات المناسبة لتمرير صفقة القرن؟

3 – لقد أدت سياسات تشجيع الاستيراد والإفراط في الاستهلاك التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة إلى تراجع قطاعي الزراعة والصناعة وإلى عجز كبير في الميزان التجاري نتيجة اعتماد لبنان على الخارج لتأمين 85% من حاجاته (من بين الأصناف التي كان يتمّ استيرادها الألبان والأجبانوالمياه المعبّأة). لذلك يراهن خبراء كثر، بعد انفجار الأزمات الاقتصادية والمالية والمعيشية، على صحوة شعبية لتشجيع قطاعي الزراعة والصناعة اللبنانيين ولتغيير الأنماط الاستهلاكية السائدة بشكل جذري بعد انهيار سعر صرف الليرة تجاه الدولار الأميركي.

لم يكن انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية تجاه العملات الأجنبية مفاجئاً للكثير من المراقبين. ذلك لأنّ لبنان كان من الدول التي اعتمدت سياسة تثبيت سعر صرف العملة، وهي سياسة مناقضة لوضع عالمي نشأ بعد سقوط اتفاقية «بريتون وودز» (أقرّت عام 1944) رسمياً عام 1976 حيث أصبحت العملة تعكس قوة الاقتصاد. وإذا كان الاقتصاد اللبناني ضعيفاً ويتميّز بعجز دائم في ميزان المدفوعات، فما هي المبرّرات المقنعة التي فرضت تثبيت سعر صرف عملته ولماذا حدث ذلك. لقد أقدم مصرف لبنان بالتعاون مع الحكومات المتعاقبة على اعتماد سياسة تثبيت سعر صرف لليرة اللبنانية تجاه الدولار الأميركي على سعر 1500-1515. وقد أدّت هذه السياسة التي ترافقت مع تصحيح وزيادة الأجور في القطاع العام إلى استقرار القدرة الشرائية لشرائح واسعة من المواطنين، وإلى بروز وتفشي مظاهر وعادات استهلاكية تتميّز بدرجة من الترف والبحبوحة لا تعرفها أكثر المجتمعات العربية. ولكن هذا السخاء في الإنفاق العام كان يقابله ضعف في جباية الضرائب والرسوم وخسارة في الكهرباء وهدر وفساد وسرقة في كلّ المرافق والمؤسسات العامة مما أدّى إلى عجز دائم في الموازنة وإلى تراكم للدين العام. وعندما بدأ الحصار المالي الأميركي والعقوبات، وتوقف مصرف لبنان عن سياسة التثبيت بسبب ضعف احتياطاته بالعملات الأجنبية، تدهور سعر صرف الليرة فجأة تجاه الدولار الأميركي ليصل أرقاماً خيالية لم تكن تخطر على بال أحد من اللبنانيين.

إنّ تراجع القدرة الشرائية لمداخيل شرائح واسعة من اللبنانيين ستؤدّي حتماً إلى انقلاب جذري في الأنماط الاستهلاكية والمعيشية. لقد بدأت الأغلبية الساحقة بالتأقلم مع الأوضاع الصعبة من خلال التخلي عن الخدم في البيوت وعن الأعراس والحفلات العامرة وعن السفر للسياحة وعن السيارات الجديدة وعن غير ذلك من السلوكيات التي اعتاد عليها اللبنانيون خلال العقود الماضية.

فهل سيقبل اللبنانيّون بحصاد ما زرعت أياديهم من خلال اختيارهم ومبايعتهم لمكونات السلطة الحاكمة الفاسدة، أم أنهم سينتفضون لإحداث التغيير الجذري المطلوب. المتفائلون يراهنون على صحوة شعبية عارمة، مبنية على وعي وغضب وجوع وفقر وبطالة، تجرف بأمواجها مكوّنات هذه الطبقة الحاكمة؛ أما ملوك الطوائف وناهبو المال العام فهم مرتاحون لأنّ في جعبهم الكثير من العناصر الخلافية والأحداث الدموية بين الجماعات والطوائف والمذاهب تختزنها الذاكرة الجماعية، والتي يمكن استغلالها كالعادة لشقّ صفوف المنتفضين الجائعين والغاضبين ولمنعهم من تحقيق أحلامهم ببناء دولة يشعر فيها الإنسان بطعم كرامته.

*مدير سابق لمعهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانيةالفرع الرابعالبقاع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى