ثقافة وفنون

فعاليّة التجديد في الأدب الوجيز

 

} د. باسل الزين

تتحدّد فعاليّة التّجديد في القدرة على ابتكار مفاهيم جديدة، ورؤى بعيدة، وطرح تصوّرات غير مألوفة وطرق أبواب غير معروفة. بيد أنّ مناط الحكم بجعل التجديد وقفًا على جملة ما طرحناه هو افتراء ومحلّ دحض لاعتبارات كثيرة أجدني منساقًا إلى التعبير عنها من خلال مرادفات الاستئناس والاستجلاب والاستجلاء.

على مستوى الاستئناس، لا ضير، في خَلَدي، من الوقوف على الطروحات النقديّة النظريّة الأدبيّة، والنّظر في تجانسها مع طروحاتنا أو تجانس طروحاتنا مع مبانيها، ومن ثمّ الاستئناس بجملة من الآراء التي تخدم هدفنا وتصبّ في مرمى بحثنا، ذلك بأنّ التبّني يُفيد تأكيد الاتّصال وينفي القطيعة، وما من مذهب أدبيّ أُرسيَت مفاهيمه وشُيّدت مداميكه من دون الركون إلى مماهاة اتصاليّة تتبنّى مشكلات وتتوافق مع حلول قبل أن تطرح طرحها وتذود عن مفاهيمها ومرتكزاتها.

على مستوى الاستجلاب، لا يُضير الفاعلُ التجديديّ إن هو احتكم إلى آراء قديمة وطروحات سابقة، فأعاد إنتاجها وفق منظورات جديدة، وتطلّعات مبتكرة، ورؤى طريفة. والواقع أنّ الاستجلاب هو صنوّ الإبصار، وكشف ما استتر، وفضّ ما استغلق.

على مستوى الاستجلاء، تتحدّد فعاليّة النظر النقديّ في عمليّة الانتقاء الحذِر، والتّنقيب الفَطِن، والاستثمار اليقِظ، ذلك بأنّ القراءة المغايرة للطّرح نفسه عمل تجديديّ بامتياز. بهذا المعنى، يغدو التّجديد، في مظان من مظاناته، مدًّا لسبل الرّؤيا، وإيغالًا في المحظورات، واستبانة لما أُحكمَت مغاليقه.

في هذا السياق، تتبدّى عمليّتا الإيجاز والتكثيف بوصفهما عمليّتين بديهيّتين ورد ذكرهما في التراثين العربي والغربيّ، وطارت شهرتهما في الأمس القريب، حتّى ليجرؤ بعض النقّاد على نعت مشروع الأدب الوجيز بالمشروع التقليديّ الذي لم يُضِف مفهومًا ولم يبتكر جديدًا.

لكنّ الأمر هو بخلاف ذلك تمامًا. يكفي أن يُجيل القارئ النّظر على عشرات المقالات التي خطّت، والمؤتمرات التي عُقِدت، والأمسيات التي نُظِّمت، والمحاضرات التي أُلقيت، ليتبيّن من فوره حجم الجهد التنظيريّ النقديّ الكبير الذي بُذِل في سبيل تأسيس مذهب أدبيّ جديد له مرتكزاته التي رُسِّخت وتُرسَّخ، وآراؤه النقديّة التي ارتسمت وترتسم، وفضاءاته الإبداعيّة التي انكشحت من سمائه غيوم اللّبس وتنكشح.

ولمزيد من الإيضاح، أودّ أن أُرسي تصوّرًا إضافيًّا عن ماهية التكثيف وفعاليّة الإيجاز اللتين نرومهما مجتمعين.

إذا كان الإيجاز من السّمات البلاغيّة التي عرفها العرب، وتناولها النقّاد نقدًا وتمحيصًا، وإذا كانت التكثيف من الأمارات الدالّة على جماليّة الإيحاء، وعمق الدلالة، فإنّ الأدب الوجيز قد تناولهما معًا تناولًا مغايرًا. بعبارة أخرى، لم يعد التكثيف صنو التعّبير عن أكبر قدر من المعاني في أقلّ قدر من الألفاظ وحسب، لقد امتلك التكثيف، والحقّ يُقال، فعاليّة جديدة جرى استنباطها من الواقع المعيش، ومن رصد طويل لحركيّة انبناء النص الأدبيّ والجُمَل الشعريّة. ينهض التكثيف في الأدب الوجيز بمهمة الإسقاط وفرض القيود الصارمة، لذا جرى نعته بالأدب الأصعب. بتعبير آخر، إذا أنعمنا النّظر في تراث الحداثة الشعريّ وما بعد الحداثة، لألفينا أنفسنا أمام حقول لفظيّة ثابتة ومحددّة، حقول يجري تركيبها تركيبًا مختلفًا، ويُمعن شعراؤها في تأليفها تأليفًا مغايرًا، ومع ذلك، باتت تلك الحقول تنزل منزلة المتوقّع (الوقت، القصيدة، اللغة، الخيال، الغياب، الحضور…)، تمامًا كما حصل مع القصيدة العموديّة إذ باتت القوافي والأرواء تنزل منزلة المتوقّع، فلا يخيب متوقّع، ولا يُبدع شاعر فيكسر حسّ التوقّع أو يزيد عليه فنندهش. وعليه، فالتكثيف فرصة مغايرة للنبش في تربة لغة مختلفة، وابتكار صور غير مألوفة، واستنطاق مفردات غير مطروقة، وولوج مناطق غير منظورة، قوامه في ذلك حركيّته الداخليّة القائمة على إسقاط الفضاء التخييلي السابق، وسنده الإيجاز الذي يعمل على صقل المعاناة، وتهذيب الرؤيا، وتشذيب النتوءات اللفظية الزائدة، وافتضاض مشهديات جديدة ومكتملة ومتجانسة تروم المفارقة وتعمّق الإيحاء وتبحث عن الغموض دون الإبهام، وتسعى إلى اقتناص رؤى مغايرة من خلال استخدام مجهر معاصر يرى المخبوء والمستتر، كلّ ذلك بفعل صقل التجربة، والوقوف شعريًا ضدّ أيّ عملية اجترار، وعدم الاستسلام لمفاتن الإطناب، وتحاشي الحقول اللفظية السالفة الذكر، أو افتضاضها على نحو تعبير مختلف. حقيقة الأمر أنّ القيود الصارمة التي يرسمها الأدب الوجيز لنفسه (المشهدية المكتملة، عدد الكلمات، الإيحاء، المفارقة، ابتكار حقول لفظية جديدة، إحياء طاقة المفردة، التكثيف بغرض التشذيب، الإيجاز بهدف الحؤول دون الشطط…) قيود تسمح للتجربة الشعرية والقصصية أن تنأى بنفسها عن الوقوع في فخ التكرار ذلك بأنّ كلّ ومضة هي عمل تجويدي جديد، له آفاقه المبتكرة، ومنظوراته المختلفة، فلا تتشارك ومضة مع أخرى إلا من باب الإيجاز والتكثيف.

وربّما اعترض معترض بالقول: كيف يرفض الأدب الوجيز القيود التي وضعها الخليل، والحدود التي اختطتها قصيدة التفعيلة، ويعود ويقع في فخّ القيود الجديدة التي يبدو أنّها أكثر صرامة؟ تكمن الإجابة ببساطة في فهم روحيّة القيود، وفي معرفة أنّ الأدب الوجيز لم يقف يومًا ضدّ القيود في عمليّة الكتابة، بل رام منذ البدء تشييد صروح تنظيريّة تجعل من الكتابة أمرًا بالغ الدقة والصعوبة ليقينه بأنّ الاستسهالكما حدث مع قصيدة النثرمن شأنه أن يقضي على الذائقة الأدبيّة، ويحول دون معرفة الغث من السمين. ومع ذلك، فإنّ وقوف منظري الأدب الوجيز ضد القيود الشكلانية المحض هو وقوف ضد الآليات التي توجّه المعنى باتجاه محدّد، وتسفح أفق التوقع، وتحدّ من إمكانيّة التفتيق اللفظيّ، وتحول دون انبثاق تجارب مغايرة بالتمام. من هنا يُمكن أن نتبيّن فعاليّة الإيجاز في منع الشطط، وفعالية التكثيف في تحقيق الكشف والانبهار، ذلك بأنّ الكثافة المحض تعادل الإيغال في المناطق المحجوبة، والاصطبار الطويل، والاعتمال المرير، حتى يتسنى للأديب الوجزيّ أن يجد ضالّته في نداء ما كان بعيدًا، واستحضار ما كان محجوبًا، والتماس شبكة علاقات بين جملة مظاهر لا تبدو بينها علاقات ظاهرة وبيِّنة.

بوجيز العبارة، تخطّى الأدب الوجيز مرحلة التأسيس، ونجح في تكريس مفاهيم جديدة بالتمام، ووُفِّق في تشييد مرتكزات ثابتة ومكينة كلّ ذلك انطلاقًا من نقاشات جِديّة وحوارات معمّقة وطروحات جادت بها أذهان كوكبة من الأساتذة الجامعيين والنقّاد الأكاديميّن والشعراء التجديديّين والروائيّين القديرين.

 

*عضو ملتقى الأدب الوجيز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى