أولى

لا حياد بين الأرض والاحتلال

 بشارة مرهج*

في ما مضى كان كلّ مسؤول أميركي يزور لبنان والمنطقة العربية يقول لأهل البلاد: «ما بالكم تتشبّثون بالمقاطعة والحصار الاقتصاديّ على «إسرائيل»؟ هذا لا ينسجم مع روح المرحلة ومستلزماتها، ولا يتفق مع شروط العصر ومعطياته. فإذا أردتم أن تكونوا داخل الزمن وحركته كونوا واقعيين. اخرجوا من الصندوق وافصلوا بين السياسي والاقتصادي. دعوا الاقتصاد يسبح في فضائه. ضعوا الحصار جانباً. اتكلوا علينا حتى نتمكن من إقناع «إسرائيل» بالحلّ السلمي الذي يعيد إليكم الأرض والسلام والاستقرار».

وكلما كانت الأنظمة العربية تتجاوب وتسترخي مع الدعوات الأميركية الملتبسة، كانت «إسرائيل» تتمرّد وتتطرّف فيأتي الصوت من بعيد: «مهلاً. لماذا الانفعال، لماذا التذمّر؟ أنتم لم تقدّموا بعد ما هو كافٍ لإرضاء «إسرائيل» والمجتمع الدولي حتى تنحلّ العقد وينفتح باب الحلول. على أيّ حال القرار لكم، لكن كلما تفوّق العقل على العاطفة وابتعدتم عن الشعبوية اقتربتم من مدار العصر وحصلتم على مرادكم».

بعد عقود من الوعود المعسولة لم يعد ثمة مساحة للتراجع. لقد أعطت الأنظمة العربية كلّ ما لديها وما استبقت في يدها شيئاً. أما «إسرائيل» التي أخذت فوق ما أعطاها «الكرم» الدولي فلم يعد أمامها ثمة مساحة للتقدّم. بدأ القلق يساورها. فقد بدأ الحديد يحكّ على الحديد وبات الجميع في الزاوية.

في المقلب الآخر واشنطن تنسى كلّ التعليمات والإرشادات التي أصدرتها، وتتجاهل كلّ الاتفاقات والمعاهدات التي سبق ان أشرفت عليها. بعد خضوعها للاستيطان الإجرامي ها هي بقيادة ترامب تغادر آخر درجة من درجات سلّم القيم الذي تدحرج سابقاً على أبواب بغداد ويتدحرج نهائياً اليوم على أعتاب القدس.

واشنطن التي تجاهلت موقع القدس فلسطينياً وعربياً ودولياً.

واشنطن التي تجاهلت موقع القدس مسيحياً وإسلامياً تربط الرسن السياسي بالملف الاقتصادي وتمارس على لبنان أعلى درجات الحصار موزعة «نصائحها» على العواصم العربية ألا شاركوا في هذا الحصار الاقتصادي الذي تطلبه «إسرائيل»… «إسرائيل» التي انكسرت هيبتها وتزلزلت سطوتها على أرض الجنوب المخضب بدماء اللبنانيين وسائر الأشقاء العرب الذين ما بخلوا يوماً على هذه الأرض بالتطوّع والمقاومة والفداء.

عندما تسقط الأمم تجاه ما ترمز إليه مجازر من مستوى مجزرة صبرا وشاتيلا، وعندما تتخلى الأمم عن الحدّ الأدنى الذي كانت تمثله، أو بالأحرى تدّعي أنها كانت تمثله على صعيد المبادئ والأخلاق، تفقد اتزانها وتضيّع طريقها وتعود بالمدينة إلى الأدغال القريبة. أما الذين يتعرّضون للقهر والحصار فبالتأكيد سيشعرون بالألم والمرارة. لكنهم سيعودون الى الصخر يفتتونه ويزرعونه كما فعل أجدادهم من قبل. إذ لا حياد بين الأرض والاحتلال.

*نائب ووزير سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى