ثقافة وفنون

بين الإنسان والمكان أكثر من حرف!

 زياد كاج*

بين الإنسان والمكان علاقة مميّزة وحميمة تقوم على الشعور بالسلام وسكون النفس من تراكمات سابقة، حيث تحلّ الألفة وتأنس الروح وترتاح، يتكرّر اللقاء وتعبق الذاكرة ببخور اللحظات السعيدة. والمكان الحميم الحافظ للذكريات مريدوه كثر وعطاؤه لهم أكثر. كريم هو ومعطاء. لي مع الأمكنة علاقة ودٍّ وحنين، حُبكت بصوف الحب وصفوة الصحبة.

مقهى الروضة البحريّ ألفته منذ مرافقتي لأخي في مغامرات صيد سمك «المواسطة» كانت تبدأ مع شروق الشمس وتنتهي مع مغيبها. ومقهى ومطعم الشيخة في ضهور الشوير الذي أنسته منذ سنوات قليلة وجررت معي إليه شلّة من الأقارب والأصدقاء فرحاً بمهنتي الجديدة كدليل سياحي يعمل مجاناً.

نصفي من مدينة في صحبة عتيقة مع البحر، ونصفي الآخر من جبل كريم بخضاره وخرير أنهاره وطيبة ناسه.

مقهى الروسا (الكوستا سابقاً) في الحمرا استسلمت له وتربّعت فيه بسهولة كموقع استراتيجي لتأمّل روّاده والمارة وممارسة شغف القراءة والكتابة مع فنجان قهوة من نادلة لا تزال ابتسامتها مشاغبة مقبلة ببعض من التهوّر على الحياة. تلك الزاوية القريبة من كنيسة الكبوشيّة تصعب مقاومة الركون إليها أيام الآحاد وفي الأمسيات..

بقيت علاقتي مع الأمكنة خارج بيروت، خصوصاً في الجبل، سطحيّة وغير مستقرة إلى حدّ ما مقارنةً مع مقاهي بيروت  كالويمبي والمودكا والأنكل سام. كلّ مرة أحاول اكتشاف مكان أو مقهى ومطعم جديد. بعد منصورية بحمدون ـ قرية أمي ـ اكتشفت الطبيعة العذراء في الجبل، من غابة العذر في جرد عكّار، إلى نهر الجوز، إلى العين الزرقا في وادي بعقلين إلى شاطئ صور وقانا وصولاً الى الشريط الحدودي ومياه نهر الوزاني النقيّة كالمرآة.

بفضل الشاعرة حكمت حسن طلعت الى «شملان» الوديعة وشربت الشاي الأخضر في مكتبة «غاية». صدقت النيات وكانت صداقة وأخوة. ثم كان اكتشاف «مطعم الصخرة» الرائع والمتوثب على شير عظيم. لكن قلبي بقي مع «غاية» ومع «البنيه» وأهلها المضيافين والنخبويين.

كبيروتي، أتطلّع نحو الجبل لحنين يسكنني للأخضر والهواء النقي بعيداً عن ضجيج المدينة وزعيقها. حللت في «فردوس» اسمه ضهور الشوير. فوق الأفق واسع ورحب. سحرتني الضهور وناسها؛ رحبة مكشوفة وواضحة ولا توارب. أشجار الصنوبر جدايل وسقوفها القرميدية الحمراء طرابيش أجداد. زرت العرزال ـ قبلة أبناء الحياة ـ حيث نلت لقب «المتآلف» من رفيقة خفيفة الظل خلال إحدى السهرات التموزية.

 متى كانت أول مرة أسمع فيها بقرية «الشوير»؟

خلال عملي في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت في النصف الثاني من الثمانينيات، شهدت على الكثير من التجاوزات الميليشياوية التي وصلت الى الكادر الطبي. كانت مرحلة فوضى تعودنا عليها كروتين يومي نتأفف منه ولا حول ولا قوة لنا معه. في أحد الأيام كنت ماراً في قسم العيادات الخاصة في الطابق الثالث والمرضى جلوساً ينتظرون دورهم. فجأة حضر رجل في ثياب رسمية ومعه ثلة من المرافقين المدجّجين بالسلاح. فتح باب عيادة الطبيب الذي حضر لرؤيته دون موعد. لم تتدخل السكرتيرة المرعوبة. وقفت لأرى ما سيحدث. ثوانٍ قليلة وخرج الدكتور إدمون الشوير ـ أول من قام بعملية غسيل كلى في لبنان سنة 1996. كان أشيب الشعر دمث الأخلاق واثق الخطوة يمشي ملكاً. طلب ببرودة أعصاب من الرجل الجلوس والانتظار. فجلس كغيره بين المرضى على الكرسي كأنه تلميذ مدرسة.

حتى اليوم لا أنسى تعابير وجه الدكتور القاسية والدبلوماسية في الوقت نفسه. كان الدكتور شويري معروف بنظافة هندامه ولباسه الرسمي. لافتٌ كان مريوله الأبيض الناصع وربطة العنق المعقودة بإتقان. رغم أنه من الحدت، لكن جذور عائلته أتت من «الشوير» وهو كان من نخب أبناء الحياة.

حين زرت ضهور الشوير لأول مرة فهمت أكثر شخصية الطبيب صاحب الأخلاق العالية. تماهت ملامح وجهه المعمّر التي علّقت في ذاكرتي مع الصخور البيضاء التي بنيت منها بيوت وكنائس المنطقة بقرميدها. سحرتني الساحة والبركة وتمثال نعمة يافت أمام مبنى البلدية والبيوت القديمة وأشجار الصنوبر والهواء النقيّ. بلدة مفتوحة متسامحة تفتح لك ذراعيها مرحبة. المهرجانات كل عام مفتوحة للجميع وقداس عيد الفصح مشترك بين الكنيستين الغربية والشرقية. تمثال الزعيم سعاده يتصدّر مدخل البلدة لجهة الشرق.

مقهى ومطعم الشيخة يبقى بيت القصيد وعلامة فارقة في المنطقة لأصالته وبساطته. قيل لي إنه قريب من العرزال. فتخيلته «ع قد الحال ومن قريبو». حين قصدته لأول مرة، شعرت أن ميزان المكان بين المدينة والجبل أصبح متساوياً عندي: الروضة، في بيروت والشيخة في أعالي المتن. عائلة من بني معروف تسكن فوق وتديره بقيادة شيخة وزوجها وأولادها. الساحة دائرية محاطة بأشجار الصنوبر وكافة أنواع الورود. النظافة لافتة والوجه البشوش و»أهلاً وسهلاً». لائحة الطعام مميّزة ومنوّعة، خصوصاً مناقيش الصاج بالكشك التي برعت فيها الشيخة. تتكسّر المقنوشة الرقيقة تحت أسنانك فتدعو للأيدي الرقيقة التي عجنتها. الجلسة مريحة وكاشفة على منظر جبلي خلاّب لجهة الشرق. زبائن الشيخة مميّزون وأوفياء، يقصدونه من كل حدب وصوب. من النخب الثقافية ومن المحيط والعائلات ومن بيروت أيضاً وطبعاً من صحبة الزوبعة وحماتها.

سمعت الخبر، قالت زميلتي سحر غندور في صباح يوم عمل في المكتبة، اُغلق مطعم الشيخة، قالتها بحزن وأسى.

صدمني الخبر. راح المكانالإنسان. شعرت أن الأمر شخصي. يعنيني في الصميم. من حسن حظي، وربما لسوئه، أنني قصدت المطعم منذ أسابيع مع العائلة وكانت لنا جلسة وداع. الابن قال لي إن الأشغال «مش ماشية» بسبب الكورونا وارتفاع أسعار الدولار وقلّة الزبائن.

السنة الماضية شعرت أن المكان فقد روحه برحيل الشيخة المفاجئ. حدث قبل يومين أنني كنت فوق مع العائلة. تناولنا الغداء وقبل المغادرة دخلت المطبخ حيث الصاج الكبير وكانت الشيخة واقفة كسنديانة شامخة. بدا على وجهها التعب. طلبت مناقيش لأخذها الى بيروت. قالت لي بمجهود: «ممكن بعد قليل». عدتُ الى الطاولة، أول مرة أراها مرهقة.

بعد يومين سمعنا برحيلها المفجع، رحلت واقفة عزيزة.

مطعم الشيخة، انكسر ظهره وخاطره برحيل بركة المكان وروحه. حارستُه وملاكُه. انكسر زوجها ورفيق عمرها الشيخ الذي استمرّ يعكز على طيفها في المكان وعلى دردشات مع الزبائنالأصدقاء وأبناء وبنات وأحفاد أعادوا بعضاً من ابتسامته المترددة.

عندما قصدت المقهى منذ أسابيع هالني مشهد أكبر شجرة صنوبر في البقعة الحشيشية التحتانية مقلوعة من جذورها. اقتلعتها رياح قوية شتوية لتستقر على سقف البيتالمطعم من دون أن تتسبّب بأذى فادح.

هوت الشجرة الضخمة كما هوت الشيخة السنة الماضية. الناس الأصيلون والأشداء يهوون كما تهوي الأشجار المعمّرة يعبّرون الحياة أعزاء.. ويرحلون أعزاء.

«مقهى الشيخة» لم يعُد كما كان، حزيناً صار مفتقداً أجواءه السابقة. انكسار الشجر المعمّر دليل شؤم. كأنها ألحّت بسقوطها على أهل المكان بضرورة الرحيل إلى مكان آخر، لإكمال المشوار حيث أفق جديد. ناس العرزال سيفتقدون المقهى. يوم المغادرة والوداع سيكون حزيناً وقاسياً.

رحلت الشيخة، هوت الشجرة، أغلق المكان أبوابهأهل العرزال في حداد سيطول.

 

*روائي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى