الوطن

المنازلة حول الحياد لن تطول لأنه بُني على باطل وفاقد المشروعية

 

} علي بدر الدين

لم يطرح البطريرك بشارة الراعي حياد لبنان عن محيطه والصراعات الدائرة فيه وحوله للترفيه والتسلية وإشغال اللبنانيين في موضوع هو موجود أساساً في سياسة النأي بالنفس التي كانت وما زالت مثار جدل من دون اي تغيير طرأ على مواقف الأفرقاء السياسيين المتمترسين خلف مواقفهم منها واعتمادها كاحتياطي خلافي غبّ الطلب، ولكنها لم تحقق الهدف المرسوم لها، ولم تعد صالحة للاستهلاك السياسي والطائفي والتعامل معها بات بارداً وعاجزاً عن شدّ العصب وإثارة الغرائز والبيئات الحاضنة من تأمين العناصر المطلوبة لاشتعال الصاعق وتفجيره، فتم الانتقال الى المرحلة الثانية المتمثلة برفع شعار الحياد الذي يجب أن يعتمده لبنان في ظل صراع المحاور المحتدم، عله ينجو بنفسه أو بخسائر أقلّ وفق تبرير طرحه من سيد بكركي الذي يدرك تماماً القصد منه في هذا التوقيت الصعب بالذات، ويدرك أيضاً أنّ لبنان في قلب الصراع والحرائق المشتعلة وهو المعتدى عليه والمحتلة أرضه من الكيان الصهيوني الذي يهدّده يومياً بالعدوان عليه، والحياد الذي يريده غبطة البطريرك يعني بالمباشر استسلام لبنان وانهزامه والتخلي عن أرضه وسيادته واستقلاله، وهذا ما لا يمكن لأحد القبول به تحت أيّ ظرف أو تبرير أو تهديد.

إنّ الأخطر في الدعوة إلى الحياد محاولة تدويلها إنْ لجهة نقلها إلى الفاتيكان لتسويقها عبر أكبر صرح ديني، أو جعلها مادة دسمة وحيدة على طاولة اللقاء المقرّر بين البطريرك الراعي ووزير الخارجية الفرنسي الزائر وخاصة أنّ فرنسا على إطلاع على طرح الحياد وتتبنّاها، على أن يعقب هذه اللقاءات الدعوة إلى مؤتمر حوار وطني حولها يعقد في بكركي التي لم تدع إلى حوارات مماثلة حول كثير من الملفات الخلافية الاقتصادية والمالية والاجتماعية والمعيشية وإلغاء الطائفية السياسة ومحاولة الاستعانة بأصدقائها في الداخل والخارج لمساعدة لبنان وإنقاذه وهي تشهد على انهياره واحتضاره وتمزق شعبه وإفقاره وتجويعه، البطريرك الراعي هو الذي قال بالأمس: لبنان وطن نهائي لكلّ أبنائه. ثم يقول: إنّ دخولنا في أحلاف سبّب لنا عزلة تامة، والحياد وحده مصدر الاستقرار والازدهار، ونظام الحياد الفاعل يعيد لبنان إلى جسر بين الغرب والشرق، ولكن الحياد لم يحم لبنان في العدوان الإسرائيلي على دول عربية سنة ١٩٦٧حيث احتلت آنذاك مزارع شبعا وتلال كفر شوبا وما زالت.

إنّ طرح الحياد ليس موفقاً لا حاضراً ولا في المستقبل ولا في أيّ زمان أو مكان لأنه غير واقعي ويفتقد الى الجدية والمشروعية والى التغطية الدستورية والقانونية، ولا مبرّر أو ضرورة له ما دام هناك خير وشر وظالم ومظلوم ومعتد ومعتدى عليهولن تكتب له الحياة لأنه مخالف لقوانين الطبيعة والأنظمة والعلاقات الدولية وتقاطع المصالح وتضاربها وبخاصة لبنان الذي دائماً هو في عين العواصف العربية الإقليمية والدولية وفي قلب الأحداث والصراعات المتفاعل الدائم مع كلّ ما يحصل على خريطة العالم بالنظر لموقعه وتنوّع مواطنيه طائفياً ومذهبياً وسياسياً والحاجة إلى داعم أو سند وهذا ليس جديداً بل تكوّن وتجلى في الحروب والفتن والصراعات التي شهدها منذ عهود الاحتلال العثماني والانتداب الفرنسي وبدايتها مع فتن 1840 و 1860  وما تلاها ويبدو أنها لن تنتهي لأنّ اللبنانيين ما زالوا يعيشون تداعياتها، وكما يقال «كلما دقّ الكوز بالجرة» يستعيدون ذكرها بـ «تنذكر وما تنعاد» لقساوتها وكارثيتها والتي ما زالوا يحصدون تداعياتها ويبحثون عن وطن وسط الركام.

غير أنّ البعض من حكام لبنان من السياسيين والدينيين الطائفيين والمذهبيين المتعاقبين الذين يدّعون حب الوطن والدفاع عنه وعن العيش المشترك فيه وصيغته الوطنية الفريدة التي لم تنتج سوى الحروب والفتن والصراعات والانقسامات بين مكوناته لأنها بُنيت على الخداع والتزوير وأقامت نظاماً طائفياً فاسداً لا يستمرّ إلا بنظام المصالح والتحاصص والتوافق الكاذب.

إنّ السجال الدائر بين بعض القوى السياسية والطائفية والمذهبية حول الحياد لن يطول كثيراً، وقد يُسحب من التداول باكرا لأنه نجح في تحريك المياه الراكدة سياسياً وطائفياً، وفي استدراج البعض إلى المنازلة وكشف بعض أوراقهم وكيف يفكرون وما هي نواياهم الفعلية، ونجح في الاستحصال على مادة خلافية قد يلجأ إليها في يوم الحشرة. لكن طرح هذا الحياد المصطنع والهادف والمصوّب على دول محدّدة فشل في إضفاء الشرعية الوطنية والشعبية والسياسية عليه، وفي استجرار قوى سياسية معيّنة للردّ وفتح قنوات للسجال وللصراع ليس وقتها ولا تخدم البلد والناس، وفشل هذا الطرح في الحصول على اجماع شعبي أو استجرار البعض الى الشارع لتبنيه والدفاع عنه وفرضه وحتى رفض معظم القوى لتبني فكرة الحوار حوله.

على الحكومة ورئيسها الخروج من سياسة المجاملة والمسايرة لأيّ من القوى السياسية والطائفية تكون على حساب الوطن والشعب أو من أجل طلب الرضى، والأولوية يجب ان تكون لتقويض الفساد ومحاسبة الفاسدين كبيرهم وصغيرهم وإعادة بناء الدولة ومؤسّساتها مع أنّ المعالجات لا توحي بالأمل والتفاؤل وكل ما يتمّ إنتاجه جلسات مجلس الوزراء وتشكيل اللجان والمزيد من الوعود وهذا لا يعني استثناء القيام ببعض القرارات الخدماتية المتواضعة وتوزيع مساعدات غذائية ومالية وإعادة النظر بالخطة المالية التي ينتظرها صندوق النقد الدولي، وربما يعوّل عليها لمساعدة لبنان والتعويض عليه ما سرقته الطبقة السياسية من أموال عامة وخاصة، وهذا لن يتحقق لأنّ المساعدات والقروض مرتبطة بالإصلاح وهذا لن يحصل لأنّ الطبقة السياسية لا تزال ممعنة في تعطيل أيّ عملية إصلاحية لأنها تناقض مصالحها وتنزلها عن عرشها السلطوي التحاصصي الذي بنت عليه أمجادها ولا يمكن هدمه إلا على جثثها، وهذه النهاية الحتمية لكلّ ظالم جائر ومستبدّ ومغتصب حق شعبه وماله وحريته وكرامته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى