أخيرة

الخطابات السياسيّة…
 والخراف!

 د. كلود عطيّة

فن الخطابات السياسية صنع في لبنان، ونال شرف التربع على عرش كل السلطاتالتشريعية والتنفيذية والقضائية، واستطاع التلاعب بالسلطة الرابعة بعد تحويلها مجرد أداة تتقاذفها الأهداف والغايات المتلازمة وأصحاب النفوذ والمموّلين وباقي الشياطين

 الخطابات السياسيّة التي تخطّت كلّ العلوم وانتصرت بدورها على كلّ المحاولات التحررية من الكذب والتملق والتلاعب بثقافة الإنسان وحريته وأسباب وجوده.. أبرز إنجازاتها تحصين مزرعة الأغنام البشريّة.. وإجراء الاختبارات على أجساد فارغة من الأرواح.. اختبارات سياسيّة للخضوع واقتصاديّة للتجويع واجتماعيّة لمزيد من التفرقة والتشرذم والبغض والطائفية والتبعية والتزلم.. أما آخر الإنجازات فجاءت على شكل تجارب صحيّة أكدت أنّ الصحة النفسية والبدنية والعقلية للإنسان في لبنان تنسجم مع طاعته العمياء لربّين في الأرض وفي السماء.. لا يفرّق بينهما.. أما رب الأرض فهو مَن يخاطبه بالعفة والأخلاق والإنسانية والمحبة والوطن والانتماء.. ويتركه يغرق وهو ينتظر رب السماء.. هي قدرة الخطاب السياسي في الفعل وردة الفعل وفي صناعة المعجزات..

 أليست معجزة أن يصفق المواطن لرب المال وهو يشحذ رغيف الخبز؟أليست معجزة أن يضيء المواطن شمعة صلاة في كوب مياه فارغ في العتمة لوزير الطاقة والمياه؟أليست معجزة أن يستقبل المواطن بالسجاد الأحمر فوق الحفر والمطبات على الطرقات لوزير الأشغال؟

آلاف الأقوال لا ترد بكلمة على مَن اخترع فن الخطاب ليقنع الناس بأنّ البلد ماشي.. من دون أن يرى أحدهم أنه يمشي فوق جثث الأطفال على أبواب المستشفيات.. فوق جثث الأمهات المغتصبات المعنفات.. فوق عرق الجبين المجبول بتراب الذلّ على أبواب المصارف.. هو البلد يمشي بالسرقات والسمسرات والخوّات.. والشعب يركض عله يلحق بسرعة التطور والإنجازات.. بالوظائف المرميّة في زوايا المؤسسات.. والشركات والاستثماراتفي البحر الذي لم ترم فيه إلا أجمل الذكريات وتفوح منه رائحة الكافيار والنفط .. والجبال التي لم تتخلّ عن جبروتها بحبة رمل أو صخرة أو حتى حجرة أو نبع أو شجرة بلوط.. حتى الأرز وباقي السنديانات

كيف لا يركض الشعب وراء كلّ هذه الإنجازات.. من الخطابات! وستبقى عظيمة في نفوس الخراف أنّ لهم مزرعة طائفية مذهبية زبائنية لا مثيل لها في هذا العالم كله.. فالمزرعة اللبنانية فريدة من نوعها ولا يمكن الحديث عن شبيه لها.. هي المزرعة التي تأكل فيها الخراف من بعضها وتنهش فيها الذئاب متى تشاء لأنها مشرعة باسم الدين لتقدم ذبائح حية لرب الأرض.. ورب السموات.. وتبقى دائماً وأبداً أسيرة الخطابات.. التي توظف الدين على أنه حجة سلطة، على رأي فيليب بروتون، حيث لا يستطيع المتلقي تحاشيها، أو مجابهتها لأنها شاهد قاتل لا يمكن تجاوزه إلا بالتصديق والتبني، فهذه الاستراتجية البلاغية، تصير أقوى ما يعزز السياق السياسي باستحضار أساليب أخرى مدعّمة لعملية تناور الخطابي كالبكاء أثناء الخطبة، (علنا لا ننسى تلك الدمعة في خطاب الذل أثناء حرب تموز!) أو خطاب التهديد عندما يكون مقام العنف حاضراً.. (خطابات أمراء الحرب عقب اغتيال الحريري)!

سيجد المتأمّل في أغلب الخطب السياسية، ارتكازها على أسلوب النداء مثل«أيها المواطنون»،«يا ثوار 17 تشرين»«يا شعب لبنان الجائع» فالنداء له قوة إنجازية أثر تلفظ به، فهو يستحضر المتلقي أثناء صياغة فعل القول، ما يجعل الخطاب يأخذ صيغة مباشرة وتلقائية قابلة لتفاعل لا مشروط، وفي هذه المرحلة يتمّ تمرير الفكر الأيديولوجي الذي ليس هو في لبنان سوى وهم فكري يقدّم لإخفاء رغبات حقيقيّة تحرّك السياق العام للإحداث، وهو ما نجده قريباً من رأي فرويد على اعتبار أنّ ما يحكم الإنسان هو رغباته الحيوانية وليس العقل. فهذا سياق يعرّي جوهر عقل الإنسان على اعتباره مجرد وسيلة في يد الرغبة، كما يكشف خبايا الخطب السياسية التي تتضارب فيها الأيديولوجيات اليسارية والدينية.

«فكلّ هذه الميكانزمات الخطابية لا تمرّر عبثاً، إنما تصاغ محبوكة بلاغياً، وتصبح وظيفة المتلقي في خضمّها هي الإذعان لفحوى الخطاب السياسي»….

*أستاذ جامعي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى