أولى

بيروت خيمتنا…

 سعاده مصطفى أرشيد*

 

بيروت خيمتنا الأخيرة.. كلمات قالها محمود درويش ذات يوم، بيروت هي الخيمة التي طالما تفيّأ في ظلالها الجمال قولاً وفعلاً مقاوماً أو هاجساً بالحب، شعراً ونثراً، مسرحاً وسينما، غناء وموسيقى. هي مرفأ الشرق الذي لم يتوقف يوماً عن تصدير واستيراد الحق والخير والجمال، ثقافة وعلماً، فكراً وفناً، صناعة وغلالاً، فما الذي دهاها؟ أهم أوثان الإقطاع السياسيّ الجاثم على صدر البلاد، أم ذوي العمائم والقلانس الذين ينافسونهم تارة ويدعمونهم تارة أخرى؟ أم أنهم أرباب المال القذر والمشتغلون لدى السفارات، أم أنهم جميع هؤلاء ممن يصلون الجهد بالجهد والعمل بالعمل في طرائق الشر والأذى من أجل تحويل البلد الجميل، بلد الأناقة والذوق الرفيع والطبيعة الساحرة، إلى بلد النفايات، وإطفاء جذوه النور والذي أضاء الشرق، إلى عتمة غياب الكهرباء وضجيج أصوات المولدات الصاخب.

هكذا وفي مثل لمح البصر، دوّى الانفجار وتعالت غيمة تشبه الفطر حشوها النار والدخان، لتهز الشرق بأسره ويسمع صداها في قبرص وحيفا واللاذقيّة والعمق الداخلي السوري، ويلتقط ذبذباتها مركز رصد الزلازل التابع لجامعة النجاح في نابلس، لم يأبه ذلك الدوي بمفاعيل سايكسبيكو، ولم يتعاطَ مع الضحايا والممتلكات على قاعدة الانتماءات الطائفية أو الحزبية أو المناطقية.

سبقت انفجار العنبر في مرفأ بيروت انفجارات لا تقلّ خطراً وهولاً عنه، كان أوّلها الانفجار الذي كان مركزه في مصرف لبنان وافتضاح سياسات الاختلاس والفساد المالي والاقتصادي من جانب والسياسي من جانب آخر المرتبط بأجندات أجنبية معادية. وهي السياسات التي أدارها حاكم المصرف، وهو من نافس رموز الإقطاع السياسي في طول بقائه في منصبه. أدّت سياسات هذا الحاكم المضمرة بسوء نية إلى انهيار سعر صرف الليرة، وإلى الأزمة المالية الطاحنة التي ترنّح جراءها لبنان واللبنانيكما حصل في حادث المرفأ الأخيروأطاحت بمصداقيّة النظام المصرفي والبنكي. وها هي البنوك تمتنع عن صرف أموال المودعين لديها، وبهذا أخذت تهزّ ثقة العالم بلبنان الذي لم يعد بيئة آمنه للاقتصاد وإنما بيئة طاردة للمال وللاستثمار.

الانفجار الثاني كان مركزه الصرح البطريركي الماروني العريق في بكركي، وتجلّى برفع بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنةأعرق كنائس الشرقشعار الحياد في الصراع الوجوديّ القوميّ التناحريّ بين آلامه بما فيها لبنان وموارنته وبين أعداء الأمة ولبنان والموارنة، ألم يلاحظ البطريرك أن لقبه يبدأ بإنطاكية التي هي خارج لبنان غورو، ولم يدرك أن سائر المشرق هو البيئة الحاضنة للبنان بطوائفه، وأن المشروع المعادي لا يستهدف فلسطين فحسب، ولا سورية التي تخوض حرباً في داخلها مع مشاريع الفتنة والتقسيم المعادية في العقد الأخير، وإنما يستهدف كلّ لبنان أيضاً، وكيف له أن يستبدل هذا الفضاء الرحب ببعض لبنان؟ ويرضى من موقعه أن يكشف ظهر المقاومة حامية لبنان وعزلها وإلصاقها بطائفة لا بوطن؟

مع الآلام التي نعانيها جراء ما أصاب بيروت، التفاحة الشهية، إلا أن مما يزيد الألم والوجع تهافت بعض الإعلام العربيّ وفضائيّاته وبعض الطارئين على السياسة من مدارس الأمن الفاشلةومعظمها في الخليجلم يؤلمهم الدمار ولم تؤثر بهم مشاهدة دماء الجرحى وأشلاء الأبرياء، وإنما وجدوا في ما حصل فرصة لنفث السموم والتنفيس عن الأحقاد والشماتة بلبنان، ولتأجيج الفتنة غير النائمة باتهام فريق بالضلوع والمسؤولية عما جرى اعتماداً على مصادر مجهولة وربما غير موجودة أصلاً، في حين انّ لبنان الرسمي وجميع مصادره الرسمية بما فيها اللواء عباس إبراهيم، قد أكدوا أن لا رواية نهائية قبل اكتمال التحقيق.

كاتب هذه السطور كغيره من عامة الناس لا يعرف من أشعل عود الثقاب، وهل كان الانفجار حدثاً عرضياً أم جريمة أعدت بليل بهيم، ولكنه وغيره يعرفون مَن هي الجهة التي أحضرت هذه الشحنة القاتلة ولماذا، وإلى أين كانت ذاهبة وذلك في مطلع الأزمة الشامية، وكيف كانت ستوظف.

لبنان سينهض من جديد، وسيكون لبناناً جديداً، مرتبطاً ببعده القوميّ ومجاله الحيويّ الطبيعيّ، الذي لا نجاة له من دونه، لن يأتيه المدد والعون من زارعي الفتنة والموت، وتجار الفتنة والفرقة وإنما ممن يرى أنه شريك للبنان بداية ونهاية، وإذا كان الانفجار الدامي قد أودى بحيوات الشهداء وأراق دماء غيرهم من الجرحى وهدّم وصدّع المباني، فإنه أيضاً قد أصاب وصدّع جدران وحدود سايكسبيكو وسيُسقط حكماً أوهاماً بائسة عند أصحاب نظريات الحياد وإن قوة لبنان في ضعفه، فقوة لبنان هي في بعده وحاضنته القومية.

وإن كان لا بدّ من كلمة أخيرة للفضائيات ورعاتها من الدول الشامتة بلبنان، والتي تعتقد أنها بالحماية الأجنبية ستكون بمنأى عن الإرهاب، فعليها أن تدرك أن لا حامي لها من الإرهاب وشعوبها ترزح تحت نير العوائل الحاكمة وسماسرتهم المنتشرين في لبنان وغيره، وأن غياب الحريات والتباينات الاجتماعية هي البيئة الحاضنة لجراثيم التطرف والعنف، ثم أن ما يظنونه من مظاهر رفاه وازدهار في مجتمعاتهم ليس مظهراً من مظاهر الصحة الظاهرية بقدر ما هو أورام سرطانية خبيثة ستفتك بهم، وأن من يشعل النار لا بد له من أن يكتوي بلهيبها، واذكرهم بقول شاعر قديم:

فقل للشامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

 

*سياسي فلسطيني مقيم في جنينفلسطين المحتلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى