مقالات وآراء

يا عذرا…

} عبد الهادي راجي المجالي*

أمس كنت أتابع تسجيلاً للانفجار في بيروت وهو عبارة عن رجل يخبر زوجته عن الدخان المتصاعد من المرفأ ويتحدث إليها، وأثناء الحديثينطلق دوي صوت الانفجار المهولثم تبدأ الزوجة بالصراخ: (يا عذرايا عذرااحمينااحمينا).

الجملة ذاتها سمعتها أيضاً في حرب (2006)، حين كانت «إسرائيل» تقصف جسراً، في بيروت، ومن أسفل الجسر مرّت سيدة مع أولادها، وحين حدث الانفجارصرخت بكلّ جوارحها: (يا عذرا احمي اولادييا عذرا).

أنا أنحاز إلى لبنان، أنحاز للعيون هناك وللجدائل وللبنات، أنحاز للشباب الذين حملوا دمهم والجراح ومضوا يسعفون الأهللأنّ هذا الانفجار بيّن لي حقيقة واحدة، وهي أنّ الأحزاب ليست هي الملتجأ في لحظة الموت والدمار، وأنّ الطوائف ليست هي عنوان الحياة السياسيةوأنّ السلاح لا يجدي نفعاً لحظة صعود الروحوأنّ التكتلات والتوافقات ليست هي المخرج للقلق الذي أنتجته الحياة السياسيةفي لبنان هنالك مخرج واحد وطريق واحد وهو: (العذرا)… التي انتصبت أيقونتها أو تمثالها على سفح جبل في بيروتفقد كانت في قلب تلك الأمّ اللبنانية التي صرختهي المخلصة، وهي درب النجاة، وهي الحلّ الأوحد والأخير.

كم من أمّ لبنانية لحظة الانفجار صرخت بهذه الجملة: (يا عذرا احمينا)… لقد نادوها بالعربية اللبنانية الحنونة الجميلة، ولم ينادوا على العذرا بالفرنسية أو الإنجليزية، فالمسيحي اللبناني من بطرس البستاني وحتى أنطوان سعاده مرورا بجبرانحين كان يشعل شمعة بالقرب من أيقونة مريم، لم يكن يشعلها لأجل الصلاة فقطوإنما لينير درب العروبة أيضاً، بالمعرفة والنضالولكي يصنع لنا بين الأمم مكاناً، لا نتصدّر فيه عبر الدم والقتل والذبحبل نتصدّر فيه عبر الكتاب والتنوير وفضاءات التسامح والعلم

انا لا يعنيني الانفجار، ولكن يعنيني العنوانوالنساء حين تبكين بدموعهن تصنعن عناوين المرحلة، والعنوان كان أمس في لبنان: (يا عذرا احمينا)… وأعرف أنّ تلك المرأة حين صرخت بهذه الجملة، أعرف أنّ النداء وصل مريم العذراء وأعرف أنها لم تكن تطلب النجاة من مريم للمسيحين وحدهم، بل كانت تطلب النجاة للدروز والأرمنللشيعة والسنة، للاجئين والمقيمينللعشاق الذين ابتدأوا لحظات الحب على رمل بيروت، وكان الرمل يصعد للخطى وليست هي الخطى من تؤسّس فيه أثر العشقللتائهين، للحيارىلبنان في لحظة الدم تتوحد فيه الأوردة كلها، ويصبح مصبّها واحداً

لا تقرأوا لبنان الكبير، الحبيب، العظيممن زاوية (أليسا)، ولا من زاوية (نانسي عجرم) ولا من زاوية (فاتنات الشاطئ) بل اقرأوهمن زاوية بكاء أمّ نادت مريم العذراء في لحظة دموصرخت في حضنها بكلمة: (احمينا)… تلك الأمّ بالأمس كانت أبلغ من كلّ إذاعات العرب، من كلّ محطات التلفزة لديهممن كلّ وزراء الإعلام، وأوجعت قلبي إلى الحدّ الذي تمنّيت، لو كنت هناكوأصلي على شاطئ البحر، وأطلب منه أن يكون حنوناً على بيروت، فهي العاصمة العربية التي قسونا عليها كثيراًورفضت أن تقسو على العرب، بل حملتهم على كفهاوعلمتهم اللحن والحرف والحياةوعلمتهم كيف تكون العروبة منهجاً وعقيدة ودرب حياة

أنت لبنان المتفرّد في الحب، وأنت لبنانالذي تستعذب الروح طعم الوجع فيهنعم لبنان هو الوطن الوحيد في الدنيا الذي للوجع فيه حلاوة، وأنت لبنان الذي علم الدنيا الوتر واللحنوعلمها الثورة والطلقة والنضالوأنت لبنان الذي كلما قدّم ضحية، أصرّت الأرض أن تنتج ألف وردة، وأنت لبنانالذي يمشي وينزف ومع كلّ قطرة دم، يطلق ألف ابتسامةوأنت لبنانالذي أنتج لنا فيروزوفيروز كانت أجمل من كلّ صباحات العربوأنت لبنانيكفيك شرفاً أنّ اسمك وحده، حين يُذكر على مسمع الرجالتهتز فيهم الأوردةحتى في الحزن أنت عملاقماذا أبقيت لنا أيها العملاق؟

*صحافي وكاتب أردني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى