أولى

خلاص لبنان بالدولة الديمقراطيّة الحديثة

 د. ادمون ملحم

 

في الرابع من آب، وقعت الكارثة الكبيرة، المؤلمة، في العاصمة «الأبيّة المجيدة»، عاصمة الثقافة والفن والجمال، «أم الشرائع»: بيروت المنكوبة، لتضاف إلى جملة الكوارث والويلات التي يعاني منها هذا البلد المنكوب وكأنه لا تكفيه مآسي الاقتصاد والمال والطائفية وضعف الدولة والقضاء ونهب المال العام وفساد المسؤولين واستهتارهم في كل المرافق والمؤسسات، بالإضافة إلى مفاعيل الحرب التدميريةالإرهابية التي أنتجها العدو»الإسرائيلي»، ومعاناة الناس بسبب وباء الكورونا، واللائحة تطول.

والسؤال الذي يطرح نفسه: متى وكيف الخلاص للبنان ولشعبه المتألم؟

لا خلاص للبنان من ويلاته ومآسيه إلا بهدم نظامه الطائفي الفاسد والمولّد للكوارث واستبداله بنظام علماني جديد ركائزه: القانون والعدل والمؤسسات الحديثة والكفاءة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والمساواة.

لا خلاص للبنانيين من أوجاعهم وآلامهم ومآسيهم إلا بدولة حديثة تلبي طموحات جميع اللبنانيين وتساوي بينهم في الحقوق والواجبات وتؤمن لهم هناء العيش والطمأنينة والسلام.

لا خلاص للبنانيين من أوبئة الفساد والفوضى وجشع التجّار والمافيات وحيتان المال، ومن كل أزماتهم الاقتصادية والمالية في كل القطاعات إلا بمحاسبة المسؤولين المستهترين، المتقاعسين، وإقصاء السياسيين الطائفيين، المنافقين والنفعيين، الذين لا همَّ لهم إلا الاستمرار في مناصبهم واستغلال مواقعهم السلطوية على حساب مآسي الشعب وأوجاعه.

اللبنانيون في حالة يائسة، محزنة، وموجعة. يموتون رخيصاً.. يتوجّعون، ويأنّون ويصرخون من هول المآسي والأوضاع المعيشيّة والغلاء والانهيارات الاقتصادية والمالية والصحية وغياب الكهرباء والخدمات والمؤسسات وحكم القانون.. الأكثرية الساحقة من الناس أصبحت الآن في أدنى مستويات الفقر والعوز تتخبّط بأوجاعها وتتألم في الظروف القاسية التي لا ترحم ولا تُحتَمل والتي تتجلى فيها مظاهر البطالة والجوع والفاقة والمرض والإذلال والموت على أبواب المستشفيات.

اللبنانيّون سئموا من الانتظار والوعود الكاذبة بالإصلاح والمعالجات.

المطلوب، الآن.. الآن.. وليس غداً، المباشرة بالإصلاحات الفعليّة، الجذرية، التي تؤسس لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة على قواعد أساسية. وهذه الدولة لا يجوز أن تتأسس على الدين والمصالح المذهبية بل يجب أن تقوم على المبدأ الديمقراطي، على إرادة الشعب، وهذا يستوجب اعتماد قانون انتخابي عصري ينتج ممثلين حقيقيين للشعب يعبّرون عن إرادته ويحققون مطامحه.

وهذه الدولة الديمقراطية يجب ان تكون دولة الشعب الواحد بكل أطيافه وأجياله لا دولة الاقطاع السياسي والديني والمافيات اللصوصية المرتبطة بالإرادات الأجنبية والمتحكمة بالناس تستغل ثرواتهم وتنكر عليهم حقوقهم. إن الدولة هي «مؤسسة الشعب الكبرى»، أي ان كل فرد من أفراد الشعب هو عضو فيها ومسؤول عن مصيرها وترقيتها. الشعب هو مصدر السيادة والسلطات.. والدولة تقوم لخدمة الشعب ورعاية مصالحه الحيوية لا لخدمة مصالح الطبقة السياسية ومنافعها. والدولة تقوم لتسيّر أعمال الناس ومصالحهم ولتخدم مصالحهم المادية والنفسية ولتعبِّر عن إرادتهم الناتجة عن الشعور بالاشتراك في حياة اجتماعية اقتصادية واحدة.

الدولة الديمقراطية الحديثة لا تكون الأديان فيها أحزاباً متصارعةٌ، ولا يكون رجال الدين فيها سياسيين واقتصاديين، بل عاملين بالروج الدينية التي يحتاجها الشعب لحياة السماء، لذلك فأرباب هذه الدولة يجب ان يعتمدوا مبدأ «الفصل بين الدين والدولة» تأميناً لوحدة الشعب وصوناً لوحدة المصالح والحقوق التي تتولّد بنتيجتها وحدة الواجبات ووحدة الإرادة الشعبية.

والدولة الديمقراطية الحديثة احتراماً منها للأديان وقيمها الأخلاقيّة يجب ان لا تسمح لرجال الدين باستغلال سلطتهم الدينية التي ادّعوها لأنفسهم من أجل مصالح طائفية، لذلك يجب، أولاً، ان تمنعهم من التدخل في شؤون السياسة والقضاء. وثانياً، ان تعتمد تشريعاً مدنياً حديثاً يتساوى أمامه جميع أعضاء الدولة.

ومن واجبات الدولة الديمقراطية الحديثة تأمين فرص التعاون والتساهل والانفتاح بإزالة الحواجز الاجتماعيةالحقوقيّة القائمة بين أبناء المجتمع الواحد والمعطِّلة للوحدة الاجتماعية.. لذلك فهذه الدولة يجب أن تعتمد مبدأ «إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب» حرصاً على وحدة الشعب الروحية والاجتماعية وعلى حقوق جميع المواطنين والمساواة بينهم.

والدولة الديمقراطية الحديثة يجب ان تعالج مشاكل الاقتصاد والبطالة والفقر والجوع وتأتي بنظام اقتصادي جديد قاعدته وحدة المجتمع المدني وغايته خير الناس ورفاهيتهم، نظام يُرسي الاقتصاد الوطني على أساس العمل والإنتاج ليتحّول المجتمع كله إلى مجتمع العاملين المبدعين المنتجين علماً وفكراً وصناعة وغلالا لأنه بدون توفير الإنتاج وزيادته لا يمكننا التفكير برفاهية الشعب. وهذا النظام الاقتصادي الجديد الذي أساسه العدل الاجتماعي والاقتصادي يجب ان يزول فيه الإقطاع، أولاً، لإزالة الحيف والظلم عن الفلاحين الذين يرزحون تحت سيطرة الإقطاعيين المستبدين، وثانياً، لتحرير الإقطاعيين أنفسهم من نفسية الاستعلاء والظلم والاستبداد لتحل بين الجميع روح الأخوة القومية والتعاون الاجتماعي. هذا النظام الاقتصادي الجديد يجب ان ينصف العمل بتوزيع الإنتاج توزيعاً عادلاً لضمان حقوق العمال المنتجين للثروة والبنائين مجد الوطن.

والدولة الديمقراطية الحديثة يجب أن تكون حتماً دولة مقاومة حريصة لأن تتخذ كل التدابير والإجراءات اللازمة لصيانة السلام الاجتماعي الداخلي ولحماية سيادة الوطن وحقوقه وثرواته وللدفاع عنه من أي عدوان «إسرائيلي». لذلك على الدولة أن تهتمّ بإعداد جيش قويّ مجهّز بالوسائل الحربية ويكون ذا قيمة فعلية في تقرير المصير.

وباختصار، نقول إن الدولة الديمقراطية الحديثة هي حتماً:

دولة المؤسسات الصالحة التي تعالج قضايا المجتمع وتنهض بأوضاع الشعب من كافة النواحي وتوفِّرُ له رغد العيش وهناء الحياة.

وهي دولة التسامح والحق والعدل والقانون والتساوي في الحقوق والواجبات المدنية والسياسية والاجتماعية..

وهي دولة المواطنية الصحيحة التي تؤمن بحق التفكير والتعبير والاعتقاد والتي تحترم الإنسان وحقوقه وتصون حريته وتنمّي مواهبه وتجعل منه إمكانيّة مبدعة وفاعلة في الحياة.

وهي دولة متنوّرة تؤمن بالعقلنة والعلم والاختصاص والمعرفة الفاضلة وتستثمر في التربية والفنون والإبداع والإنتاج الصناعي والزراعي والمعارف العلمية وتحقق نهضة الشعب وعز المجتمع بثروة بشريّة تتميّز بإبداعاتها ومؤهلاتها العلمية وبكفاءاتها العالية وخبراتها المميزة..

هذه هي مميزات الدولة الحديثة، السليـمة، القوية، والمعبِّرة عن إرادة الشعب والساهرة على صيانة حقوقه وسيادته على نفسه والحريصة على تحقيق مصالحه الحيوية التي تعني الخيـر والبحبـوحة والعز والتقدم والازدهار للجـميع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى