مقالات وآراء

الجميع متساوون في حقوقهم وواجباتهم ويتمتعون بوحدة روحيّة واحدة..

السلام القوميّ تصنعه الأمة الحضاريّة المقتدرة بوحدتها وقيمها وقوتها

} د. ادمون ملحم

الفلسفة القومية الاجتماعية التي جاء بها أنطون سعاده هي فلسفة اجتماعية عميقة تصب اهتمامها على قضايا الوجود وتتضمن مبادئ أساسية وإصلاحية وتعاليم مناقبية جديدة غايتها: أولاً، إصلاح المجتمع السوري المفكك والواهن والغارق في مستنقعات التخلف والتعصب والتقوقع والانعزال وتوحيده والنهوض به لينعم بالحياة الحرة الجميلة وليصبح مجتمعاً قومياً راقياً له نفسية جديدة وهوية واضحة وقضية قومية مستقلة، مجتمعاً يتساوى أبناؤه في ملكيتهم للوطن وثرواته وينصهرون في قومية سورية جامعة نتيجة اشتراكهم في وحدة الحياة والمصالح والمصير..

وثانياً، غاية هذه الفلسفة الوجودية، الكلية، إعادةِ النبوغِ السوريِّ إلى عملِهِ في إصلاحِ المجتمعِ الإنسانيِّ وإنقاذه منْ تخبُّطِهِ ومشاكله الاجتماعيةالاقتصادية وحروبه المدمِّرة والمساهمة في ترقيتِهِ للوصول إلى حياة أجود في عالم إنساني أجمل تسوده قيم الحق والجمال والعدل والسلام بين الشعوب، وذلك من خلال ما تقدمه هذه الفلسفة من نظراتً حضارية جديدة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة والحقوق والتشريع والفن والإدارة والتاريخ وغيرها من المجالات.

ولو تعمّقنا في جوهر الفلسفة القومية الاجتماعية من خلال كتابات سعاده وشروحه لوجدنا في صلبها فكرة السلام القومي للأمة السورية وللعالم العربي وللإنسانية جمعاء. في ما يلي سنرّكز على فكرة السلام القومي:

السلام القوميّ:

تتوجه القومية الاجتماعية إلى الأمة كلها أي إلى كل الشعب السوري من مختلف الطوائف والمذاهب والكيانات ومن مختلف العناصر والأصول الإثنية وتدعوهم جميعاً ليتوحّدوا في الحركة القومية الاجتماعية حول قضية الأمة الواحدة: قضية حياتها واستقلالها وسيادتها ورقيها في عقيدة وحدتها الروحية والاجتماعية.. فلا تمييز بينهم على أساس الدين او الطبقة او العنصر بل الجميع متساوون في ملكيّتهم للوطن، كما يحدّد المبدأ الأساسي الأول من مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي: «سورية للسوريين والسوريون أمة تامة». والجميع متساوون في حقوقهم وواجباتهم ويتمتعون بوحدة روحية واحدة على أساس القواعد الإصلاحية التي تحتم «إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب» و»منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين» واعتماد قانون قضائيشرعي واحد تنتجه عقول التفكير الجديدالتفكير القومي الاجتماعيويحس الجميع بأنهم متساوون أمامه. ..

والمعتنقون للعقيدة القومية الاجتماعية، عقيدة النهوض القومي، متساوون مع بعضهم في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن خلفياتهم الكيانية او العنصرية وعن مذاهبهم الدينية التي يجب أن تبقى من شؤون الأفراد الخصوصيّة. جميعهم يعتنقون عقيدة واحدة جمعت مصالح الشعب السوري كله وقالت باستقلال قضيته القومية، قضية الأمة والوطن السوريين، وجميعهم يعملون بإيمان واحد ومن أجل غاية سامية متّحدين حول قضيتهم الواضحة يدافعون عنها ويبذلون كل شيء في سبيلها. وعندما تسود فكرة المساواة بين أعضاء الجماعة الواحدة ينتفي الشعور بالغبن والتمييز ويحلّ الشعور الروحي الواحد الذي يعزّز السلام والتراحم والتماسك والوحدة ويمنع المنازعات والانقسامات والعصبيات والفتن المذهبية..

وفكرة السلام الكامنة في جوهر المبادئ القوميّة الاجتماعية هي فكرة متأصلة في النفسية السورية ونجد جذورها في الفكر الميثولوجي القديم (وخاصة البابلي) وفي تاريخ الأمة وتراثها الروحي والثقافي.. وكما يشير الدكتور حيدر حاج إسماعيل في الجزء الثاني من كتابه التعريفيّ بالحزب السوري القومي الاجتماعيتاريخ الحزب من خلال آلام سعادهفإن عقيدة السلام تجلّت بوضوح في تعليم الفيلسوف السوريالفينيقي زينون الذي خالف التفكير الأخلاقي اليوناني السائد في زمانه والقائم على اعتماد مجتمع المدينة الضيق كمحور لتفكيرهم الأخلاقي واعتبار أن الدولة المثلى هي دولة المدينة وما كان يجلبه هذا التفكير التعصبيّ من صراع بين مدينة وأخرى..

وتجدر الإشارة إلى أن زينون، المولود في كيتيوم الفينيقية في الجزيرة القبرصية، جاء إلى أثينة، كما يشير سعاده، «من حضارة عريقة اجتماعية، ولذلك ذهبت محاولات أساتذته المستهترين لتحويله عن اجتماعيته السورية دون أي تأثير على شخصيته».1 وأنشأ زينون المدرسة الرواقية التي أصبحت فيما بعد من أهم المدارس الفلسفيّة التي استمرت لبضعة قرون وحصدت شعبية كبيرة من فئات مختلفة ووصل نفوذها إلى أقاصي العوالم المتمدنة وأصبحت الخط الواضح لفلسفة النهضات حتى يومنا هذا. واتجه هذا الفيلسوف الرواقي بتفكيره الأخلاقي الجديد نحو البشرية جمعاء ودعا إلى قيام المدينة الأخلاقية الكونية الفاضلة: مدينة السلام البشرية المثالية، حيث إن كل البشر إخوة في أسرة واحدة هي الإنسانية، تجمعهم رابطة أخلاقية وثقى، وجميعهم يمارسون الفضيلة التي هي الخير الوحيد ويتعاملون مع بعضهم كما لو كانوا أعضاء في دولة عالمية واحدة، وقال:

يجب ألا تتخاصموا، يجب أن لا تتنابذوا، يجب ان لا يحارب بعضكم بعضاً، يجب ان لا تكون هناك تفريقات عنصرية بين مدينة ومدينة، لذلك ايها البشر إذا ما التقى واحدكم الآخر عليه إن يعامله كما لو كان إياه في مدينة كونية واحدة.2

وبعد زينون الرواقي الذي بشَّرَ بالفضيلة والحب العالمي في فلسفته الأخلاقية الجديدة جاء المسيح السوري بدين عالمي لينشر المحبة والسلام بين أبناء البشر وليقول: «جئت لجميع الأمم وعلى الأرض السلام..». وبعد المسيحية جاء الرسول الكريم أيضاً بالعقيدة الإسلاميةالمحمدية كدين للعالمين مبشراً بسلام الله وبعدم التفرقة بين الأجناس والأمم وبين عربي وأعجمي إلا بالتقوى.

واستكمالاً لتراث الأمة الميثولوجي والثقافي ولرسالاتها السماوية جاء سعاده برسالته القومية الاجتماعية الجديدة معتمداً فكرة السلام في صلبها وداعياً أبناء قومه لتحرير أفكارهم من العقائد المهترئة والأوهام الباطلة واعتناق العقيدة القومية الموحِّدة، عقيدة التسامح والآخاء القوميين، ليتحوّل المجتمع السوري المفتّت وبيئته الطبيعية الممزقة إلى مجتمع واحد قويّ ومتماسك ولتعود دورة حياته الحضارية والإنسانيّة إلى فعلها الطبيعي في تحريك جميع قوى المجتمع وجعلهم في حالة نشاط وتعاون وإنتاج وعطاء وإبداع وفي حالة تجدد وارتقاء وقدرة على حمل خطط التفكير السوري الجديد والإسهام الحضاري والإنساني في بنيان العالم العربي وقيادته وفي ترقية الإنسانية جمعاء.

وللتدليل على وجود فكرة السلام في صلب الفلسفة القومية الاجتماعية جاء نشيد الحزب السوري القومي الاجتماعي ليعكس هذه التعليم في مطلعه المتكرر:

سورية لك السلام   سورية أنت الهدى

سورية لك السلام       سورية نحن الفدى

وسعاده يؤكد على الترابط بين فكره وفكر الفيلسوف زينون إذ يقول:

إنّ من يتأمل فلسفة سعاده في خطبه الممتلئة وفي كتابه «نشوء الأمم» يدرك الرابط العظيم بين فكره وفكر فيلسوف الرواقية، خصوصاً في الناحية الإيجابية البانية التي تعبّر فيها الفلسفتان عن نفسية عميقة متأصلة في المجتمع السوري.3

ويضيف سعاده،

على أنّ سعاده كان أغنى بتمثيل جميع نواحي النفس البشريّة ومطالبها فلم يقتصر على ناحية الفكر، وإن لم يهملها، وجعل مطلب الحياة الأسمى تحقيق الحياة الحرة الجميلة في المجتمع وتأمين عوامل رقيها. إنّ رسالة سعاده كرسالة زينون إنسانية في غايتها، وكل عودة إلى مبدأ الفكر والحياة عودة إلى الإنسان. و«إنسانية سعاده» إنسانية منظمة مسؤولة لا فوضى مائعة.4

 

1 – راجع مقالة بعنوان «من عهد زينون إلى عهد سعاده» منشورة في سورية الجديدة، سان باولو، العددان 54، 55، 1/3/1940

2 – حيدر حاج إسماعيل، التعريف بالحزب السوري القومي الاجتماعيالجزء الثاني، تاريخ الحزب من خلال آلام سعاده، الطبعة الأولى، 1989، ص374.

3 – راجع مقالة بعنوان «من عهد زينون إلى عهد سعاده» منشورة في سورية الجديدة، سان باولو، العددان 54، 55، 1/3/1940

4 – المرجع ذاته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى