مقالات وآراء

امتاز الكنعانيّون بظاهرة الروح القومية من بين جميع شعوب التاريخ القديم..

العصبيّة القوميّة الاجتماعيّة... رابطة وحدة الأمة وقيامتها

 

}  د. ادمون ملحم

في خاتمة كتابه العلمي «نشوء الأمم» يحلِّل سعاده ظاهرة من أبرز الظواهر الاجتماعية العامة في وقتنا الحالي ألا وهي ظاهرة الروح القوميّة التي امتاز بها الكنعانيّون من بين جميع شعوب التاريخ القديم.

و»القومية» يقول سعاده، «هي الروحية الواحدة أو الشعور الواحد المنبثق من الأمة، من وحدة الحياة في مجرى الزمان»1. ويضيف: «إنها عصبية الأمة».2 والعصبية التي عنى بها سعاده ليست عصبية دينية ولا «مجرد عصبية هوجاء»3، أي نوعاً من التعصب السلبي الأعمى الذي يعني الوقوف مع الجماعة ظالمة كانت أو مظلومة وهو ميل يعاكس الحرية والتسامح ويفيد عدم التساهل وروح التفريق والتمييز بين الأفراد، بل هي نوع من التعصب للحياة واستمرارها واستجادتها وهي انحياز كليّ لخير المجتمع وارتقائه وللاهتمام بحاجاته ومصالحه. وحسب سعاده، القومية هي ليست «نعرة دموية سلالية»، أي عصبيّة متولِّدة من النسب والقرابة، كما شرحها إبن خلدون في مقدّمته، واعتبرها كالروح العشائريّة القائمة على لحمة الدم التي تربط أبناء القبيلة الواحدة مع بعضهم وتجعلهم يتعاونون ويتكاتفون في الشدّة والرخاء، بل هي عصبية منبثقة من روابط الحياة الاجتماعية في الاشتراك في وحدة الحياة والمصالح. ولغوياً، كلمة العصبيّة تمتّ بصلة الاشتقاق إلى كلمة «العصب» بمعنى الشّد والربط وكلمة «العصابة» بمعنى الرابطة. لذلك اعتبر سعاده أن القومية هي رابطة الأمة، وهي رابطة نفسية اجتماعية تعني «استيقاظ الشّعور بالوحدة الحيويّة والمصلحة الواحدة».4 إنها رابطة روحية متينة تربط أبناء المتّحد الواحد مع بعضهم وتوحِّدهم وتولِّدُ فيهم الوعي للخير العام وللمصلحة العامة وللحقوق العامة.

وهذه العصبيّة التي شرح معناها سعاده هي ضروريّة للتعاون القومي، لأنها بمثابة الشعور الروحي الصادق الذي يولّد محبة الوطن ويدفع بأفراد الشعب الواحد للتعاون معاً في سبيل تحسين حياتهم الجامعة وتقدّمها، و»التي يعني فلاحها فلاح المجموع وخذلانها خذلانه»5، وفي سبيل الدفاع عن الحقوق والمصلحة القوميّة ودفع الأخطار التي قد تحدق بوطنهم. هذا الشعور الروحي العميق الحي يدعوه سعاده بالوجدان القومي ويعتبره أعظم ظاهرة نفسية اجتماعية في عصرنا الحالي، لأن بلوغنا هذا الحد من الشعور يعني «يقظة الأمة وتنبهها لوحدة حياتها ولشخصيتها ومميزاتها ولوحدة مصيرها».6

والارتقاء إلى مرتبة الوجدان القومي، أي الشعور بشخصيّة الجماعة والتعبير عنها، «يتطلب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيّته شعوره بشخصية جماعته، أمته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسية متحده الاجتماعي وأن يربط مصالحه بمصالح قومه وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه».7

ما أحوجنا إلى الوجدان القومي في هذا الزمن الرديء، زمن الويلات والكوارث التي نواجهها نتيجة إفلاس النظام الفاسد وعهر الطبقة السياسية الحاكمة. ألم تكن كارثة مرفاً بيروت نتيجة استهتار عدد كبير من المسؤولين في الدولة وإهمالهم واجبات مسؤولياتهم لعدم وطنيّتهم وغياب وجدانهم القومي؟ أليس ما يعانيه الشعب اللبناني من فقر وأوجاع وإذلال وخسارة لمدَّخراتهم في المصارف ناتج عن فقدان الحس الاجتماعي عند الطبقة السياسية المتكالبة على السلطة والساعية دائماً لتحقيق مصالحها على حساب مصلحة الشعب؟ أليس ما يتحمّله اللبنانيّون ويتعرّضون له من إصابات وموت متزايد بالأمراض المستعصية نتيجة تلوث البيئة والعيش ضمن جبال من النفايات ومن فقدان الماء والكهرباء والتعليم والاستشفاء والوظائف والخدمات وشلل القضاء وغياب العدالة والحرية والكرامة.. أليس كل ذلك نتيجة فساد السياسيين وجشعهم وشعوذاتهم وعقم خططهم وأساليبهم وتفكيرهم الانحطاطيّ؟

ما أحوجنا اليوم إلى الوجدان القومي نتسلّح به لتمتين وحدتنا الاجتماعية وتحسين حياتنا بمعالجة مشكلاتنا ومعضلاتنا وتحقيق أحلامنا وطموحاتنا ببناء دولة حرّة، مستقلة، سليمة، لا يحكمها الإقطاعيون والنفعيون والطائفيون وباعة الوطن المرتهنون للإرادات الأجنبيّة، ولا وجود فيها للنعرات المذهبية والتكتلات الطائفية والتمثيل الطائفي والمحسوبيات ولا مراعاة فيها لحسابات المصالح الرأسمالية والإقطاعية والعائلية وللسياسات الشخصية النفعية ومآربها.

ما أحوجنا اليوم إلى الوجدان القوميّ نتسلّح به لمواجهة الأخطار الخارجية المتمثّلة بأطماع العدو الخطير الزاحف إلينا، والذي لا يكّفُ عن اعتداءاته ودسائسه ومؤامراته، وبأطماع الدول الإقليمية والغربية التي تتسابق وتتنافس لتمتين نفوذها في بلادنا ولتحقيق مصالحها الحيوية ونهب ثرواتنا.

ما أحوجنا إلى الوجدان القومي في هذا الزمن الرديء، زمن القيادات المتنازلة عن الصراع وعن حقوقنا القومية، زمن الرضوخ للعدو المغتصب والسكوت عن سياساته التوسعيّة وممارساته الإجرامية الهادفة لطرد شعبنا من أرضهبعض القيادات المنحرفة، التي لا تشعر بالعار، تتسابق للارتهان للإرادات الغربية وبعضها الآخر يتسابق للصلح المذَلّ مع العدو والخضوع لوعوده الكاذبة.. لأنها قيادات باعت شرفها وباعت القضية المقدّسة وتاجرت بدماء آلاف الشهداء الذين سقطوا من أجل تحرير فلسطين ودفاعاً عن تراب الوطن، ابتداءً من الشهيد حسين البنّا، أول شهيد سقط في الصراع القومي المسلح المباشر لدفع الهجرة اليهودية الاستيطانية وذلك عام 1936، انتهاءً بأبطال الجنوب اللبناني وأبطال الانتفاضة أطفال فلسطين ورجالها ونسائها الذين ما زالوا حتى يومنا هذا يعتصمون بحق الصراع ويواجهون جيش العدو بإرادة صلبة وإيمان عظيم لا مثيل له في التاريخ مؤكدين بأن «في شعبنا قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ».8

إلى كل السياسيين المنحرفين، المتزلّفين، الذين ينافقون ويراوغون ويتسابقون لخدمة أعداء الوطن بنيل رضاهم وتنفيذ خططهم وطلباتهم بطعن المقاومين الشرفاء ومحاصرتهم.. إلى هؤلاء المتبّجحين بوطنيّتهم وهم من أهل الفساد والنفاق الذين ينهبون خيرات البلاد، نردّد ما قاله سعاده العظيم: «ويل للمستسلمين الذين يرفضون الصراع فيرفضون الحرية وينالون العبودية التي يستحقون».9

نحن، مع كل المقاومين الشرفاء في بلادنا، بدأنا زمناً جديداً: هو زمن الانتصارات، زمن البناء وتحقيق الآمال والغايات الكبيرة النبيلة.. وكما كنّا، وما زلنا، نسوراً مشاركين في دحر الإرهابيين والأعداء الخارجيين، سنبقى مهتمين بقضايا أمتنا الداخلية ومدافعين عن حقوق الشعب وكرامته.. وسنبقى مهتمين بنشر عقيدتنا وإيصالها إلى النفوس «من أجل توحيد أمتنا وتهيئتها للوقوف موقفاً واحداً في ميدان تنازع البقاء والتفوق».10

إن أملنا الوحيد في تحقيق أمانينا وطموحاتنا الكبيرة يكمن في وحدتنا وتعاضدنا وتكاتفنا وفي عصبيتنا القومية وثقتنا بأنفسنا ومواهبنا وبأن فينا قوة كامنة وقادرة على الخلق والإبداع والتفوق والانتصار.

نحن أبناء النهضة القومية الاجتماعية العظيمة، واقتداءً بزعيمنا الخالد، نقف أنفسنا ونعمل على توحيد أمتنا وتقوية معنوياتها وإبراز مواهبها «حتى تصبح الآمال التي تجول في مخيلة رجال سورية أفكاراً قابلة التحقيق بتولد القوة الفاعلة فيها».11

في هذا الزمن العصيب، نتسلح بالإيمان ونقتدي بالزعيم الخالد الذي قال «إن أزمنة مليئة بالصعاب والمحن تأتي على الأمم الحيّة فلا يكون لها إنقاذ منها إلا بالبطولة المؤيدة بصحة العقيدة».12

 

1 – أنطون سعاده، نشوء الأمم، ص 167.

2 – المرجع ذاته.

3 – المرجع ذاته.

4 – المرجع ذاته، ص 130.

5 – المرجع ذاته، ص 167.

6 – المرجع ذاته.

7 – المرجع ذاته، المقدمة، ص 13-14.

8 – أنطون سعاده، الآثار الكاملةالجزء الثالث 1937، ص 54.

9 – أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 168.

10 – خطاب الزعيم في العيد القومي، الزوبعة، بيونس أيرس، العدد 71، 15/01/1944.

11 – أنطون سعاده، رسالة إلى صديق حول موقف الحزب من العالم العربي، منشورة في «النهار»، بيروت، 22/01/1936.

12 – أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 25.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى