الوطن

العدالة الانتقاليّة لأجل نسورنا وشبابنا…

} لور أبي خليل*

في التوصيف، لبنان عاش حرباً أهلية دامت 30 عاماً، وأنتج أمراء حرب ورؤساء محاور طائفية ومذهبية وسياسية ومناطقية، ونخر الفساد الكبير والصغير إداراته ومؤسساته كافة، في ظلّ انقسامات سياسية واحتقان اجتماعي متزايد وانتهاك لحقوق الإنسان، اضافة إلى تعرّضه للاحتلال والعدوان «الاسرائيليّين»، ومجموع ما سبق ترابط وتناسق فشكل تحدّياً خطيراً مهدّداً لاستقرار لبنان ومستقبل اللبنانيين.

وجاءت جريمة اغتيال ثلاثة شبان ينتمون إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي في بلدة كفتون ـ الكورة في سياقات التحدّي الآنف الذكر.. إنها جريمة إرهابية من ضمن مسار التحديات التي يتعرّض لها لبنان، وقد ردّ عليها الحزب السوري القومي الاجتماعي، بتأكيده أنه حزب لا يستثمر في الدماء، لكن دماء شهدائه الأبطال لن تذهب هدراًهذا كان موقفه، وهذا كان مشهد عرس الشهادة في وداع الشهداء في بلدة كفتون.

إنّ هول الجريمة، يتطلب مواجهة كلّ التحديات مجتمعة، والمواجهة برأينا هي بتبنّي مسار العدالة الانتقاليّة. فما هي العدالة الانتقالية وما هي آلياتها؟

إن العدالة الانتقالية هي عملية تفعيل الحلول القانونية والسياسية والنفسية والأخلاقية والتي تهدف الى التوفيق بين مبادئ العدالة والتسامح والحقيقة لإعادة بناء التكوين الوطني من الدستور الى القوانين الإدارية والمدنية. وهي تعتبر الجسر بين العدالة العقابية التقليدية والسياسية والتي يتمثل هدفها الرسمي في تضميد جروح النسيج الاجتماعي من خلال تهدئة التوترات داخل الجسم الاجتماعي وإعادة الاستقرار على المستوى السياسي والاجتماعي في دول تمرّ بمرحلة انتقالية. وهذه العدالة تعتمد سلسلة من العمليات والآليّات لتقليص معاناة المواطنين في الفترات الانتقالية وتعتبر أداة جديدة لبناء الأمة وهيكلة المجتمع والهويات السياسية في أيدي نخب جديدة ناشئة. والمراحل التي يجب أن تمر بها هي: معرفة الحقيقة، معرفة حجم الضرر والتضحيات، تكريم وتخليد ذكرى الشهداء، جبر الضرر فبقدر الضرر يكون الجبر، الاهتمام بالمصالحة والمحاسبة في آن واحد من دون التطرّق الى الحسابات الشخصية. وكل ذلك يتم تحت سيادة القانون دون الإفلات الكلي أو الجزئي من العقاب.

توجد خمسة مكوّنات أساسيّة تتألف منها آلية العدالة الانتقالية: المصالحة، المحاسبة، الكشف عن الحقيقة، جبر الضرر، وإصلاح المؤسسات، ولا يشكل ترتيب الأركان الخمسة الواردة هنا أولوية لمكوّن عن الآخر، بل هو ضرورة منهجية.

توجد ثلاث خصائص تميّز العدالة الانتقالية. الخاصية الأولى اعتمادها مبدأ الشمولية في معالجة إرث الانتهاكات الجسيمة، إذ إنها لا تقف فقط عند حدّ التقصي في الجرائم وتحديد المسؤولين ومعاقبتهم، بل تعمل أيضاً على جبر الإجراءات الكفيلة بعدم تكرار الضرر وردّ الاعتبار للضحايا وإنصافهم، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بعدم تكرار الانتهاكات. أمّا الخاصية الثانية فهي إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة. والخاصية الثالثة تعزيز السلم الأهلي والديمقراطية. ما يعني انّ العدالة الانتقالية تتسم بقدرتها على الإبقاء على التوازن المطلوب لخدمة مختلف الأهداف والمقاصد السالف ذكرها، وهذا طبعاً ما نفتقده في لبنان في ضوء موازين القوى القائمة.

إذا أردنا تفسير عوائق تطبيق العدالة الانتقالية في لبنان فيمكننا أن نحلل ما يلي:

الفترة الانتقالية في لبنان كانت بعد الحرب الأهلية، والتي كان من المفترض فيها محاسبة مجرمي الحرب الذين ارتكبوا المجازر والمذابح والقتل على الهوية، الا أنّ طبيعة النظام الطائفي شكل شمل مجرمي الحرب الأهلية بعفو عام وآخر خاص، بدل محاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها، بل أكثر من ذلك، فقد سمح لمجرمي الحرب أن يكونوا جزءاً من السلطة السياسية، فأفسدوها وتحكموا في المناطق فمذهبوها. ولذلك، وبدلاً من أن تكون الفترة الانتقالية للمحاسبة وجبر الضرر ونكء الجراح لمن خسروا أهلهم وبيوتهم ومؤسّساتهم وأرزاقهم، تحوّلت إلى فترة عفو عام، استفاد منها مرتكبو الجرائم في فترات النزاعات المسلحة، على قاعدة طي صفحة الماضي من دون محاسبة.

وبما أنّ المجرم لم يحاسب، ولأنّ نظرية الردع بالنسبة إليه المبنية على المحاسبة لم تطبّق، فقد أصبح أكثر شراسة وإجراماً، فبدأ بخطواته التالية وهي بناء مزارعه الطائفية والمذهبية والمناطقية لإنشاء بيئته الحاضنة التي تدافع عن فساده وإجرامه وتآمره مع الغرب وتواطئه على مَن حمى الوطن بدمه وشرفه ومن واجه «داعش» و»النصرة» ومَن استشهد في مواجهة العدو الصهيوني وأطماعه.

بل وأكثر من ذلك، فإنّ المجرم يطالب بالمشاركة السياسيّة وبترؤس الدولة والمؤسسات عبر المحاصصة السياسية.

كلّ الذي حصل والذي يحصل والذي يمكن أن يحصل أسبابه أيها الشهداء وأيها النسور عدم تطبيق العدالة الانتقالية المبنية على المحاسبة أولاً. ولكن استشهادكم هذه المرة يجب أن لا يمرّ من دون تطبيق معايير العدالة الانتقالية لأنّ عملية تفعيل الحلول القانونية والسياسية والنفسية والأخلاقية وقتها الآن لبناء دولة مدنية حرة ديمقراطية. لذلك يفترض بنا ان تضع امام اعيننا الخطوات التالية:

اولاً معرفة حقيقة مَن قام بتفجير المرفأ ومن قتل نسور كفتون.

ثانياً: محاسبة مرتكبيهما.

ثالثا: تكريم وتخليد ذكرى الشهداء.

رابعاً: المطالبة بجبر الضرر، فبقدر الضرر يكون الجبر.

خامساً: بناء التكوين الوطني من الدستور الى القوانين الادارية والمدنية.

كلّ هذا يتمّ تحت سقف القانون. فالقانون وحده يسهم في تخفيف الاحتقان المجتمعي من خلال كشف الحقيقة وإجلائها أيّ الانتقال من القهر الى العدالة الحقيقية لحفظ الكرامة الإنسانية. فالقانون لا يتحقق إلا بالعدالة الانتقالية فهي المخرج الوحيد من الوضع المأزوم عبر إحقاق الحق وضمان عدم التكرار. وهذا ما يجعل العدالة الانتقالية تدخل ضمن رؤية استراتيجيّة لبناء دولة وإمكانياته إرساء الحق والقانون من دون أية مساومة.

 

*أستاذة محاضرة في كلية الحقوق والعلوم السياسية ومعهد العلوم الاجتماعية، الجامعة اللبنانية.

باحثة وخبيرة في شؤون مكافحة الفساد ورسم السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى