حديث الجمعة

عندمـا تـموت المدينـة

} ناصر قنديل

عندما تفجّرت بيروت

سقط أكثر من النظام

وتكسّر ما بعد البيوت

سقط الكلام

هُزمت المدينة

تمزّقت حبال السفينة

وضاعت السكينة وسقط السلام

ربما سقط الكيان وربما سقط المكان وربما الزمن 

وألف ربمالكن الأكيد أننا في امتحان الوطن

***

الميناء المفتوح على البحر والتاريخ

عاند الموج والسحر والغزوات والصواريخ

صنع مدينة للبحر وأسس عبرها الحضارة

الحرف واللون والشعر والشِباك والصنارة

غزل الميناء الخيوط فصارت شباكاً وحاك الشباك فصارت شراعا

وأخذت الصواري تغرف لون الغروب فصار الأرجوان وصارت الصواري يراعا

تنشأ المدينة كما الميناء كما الذاكرة من الزمان والألوان فيضجّ المكان بالأصوات

الباعة والصيادون والشوارع الضيقة والأزقة المقفلة وعتمة المحلات

زفة العرس وصهلة الفرس وجنازة الأموات

في خليط رائحة البحر وزهر الليمون والبن والزعتر

في السؤال عن كيف يولد من الاختمار عتيق الخمر والعقيق والعنبر

ولدت بيروت مدينة وحيدة فريدة عاصمة للبحار

منذورة للسحر والحبر و الشعر والأفكار

***

في موت المدينة ينهض الغضب عناقيدَ ويسقط الكلام حصرمْ

يشتعل اللهب ويموت السلام ويضيع الحق في قبضة المعصمْ

المدينة تعيش في الكلام والحوار واللغة لا في الصراخ والغضب

المدينة تنمو في أحاديث الليالي المقمرة في السكينة لا في اللهب

في عرس موت المدينة يحترق أكثر من المبنى

يعيدون هندسة العمارات والشوارع

يُعيدون تنظيم الأحواض والرصيف واستقبال البضائع

لكن مَن يعيد لنا المعنى؟

***

ننتبه متأخرين كما في بيروت القديمة

أن الحضارة كما الذاكرة ليست خطوطاً مستقيمة

نفتقد الأدراج والتعرج والأزقة والصراخ وفوضى الفنون 

لن تعود لنا الحياة فيها والاختلاط القسري المتراكم عبر القرون

ليست المدينة إلا هذا الخليط من الزيت وملح البحر وخل المنازل

ليست المدينة وجبات جاهزة ولا عناوين مضيئة وقد ضاع سوق التوابل

وضاع محل الفلافل

وضاع سوق السمك

وتكسّرت الصنارة وتمزّق الشبك

هذا هو موت المدينة

***

ندفن المدينة كل مرة نعيد إعمارها

فالمدينة تحكي حكايات بيوتها بطول أعمارها

ونشعر بالموت ولا نعرف أننا نموت

يتسلل الموت في عروقنا من زجاج البيوت

كم قنبلة موقوتة تفجّرت بنا ولم نشعر

قنبلة الدَّين والفوائد تشبه قنابل المرفأ

وكما كنا نفرح بالعوائد نطمر الأوساخ تحت فراشنا ولا نعبأ

ونستفيق على الفاجعة لنصرخ في نومنا كفى

وأفواه الفساد الجائعة تسللت تحت ثيابنا

نتقاسم النص ونتقاتل على صفحات كتابنا

والفساد نصفان في كل نصف منا نصف منه اختفى

***

مَن سيعيد صوت فيروز ورائحة البن المحروق عند الصباح

من سيعطي المعنى لانتصار في الحرب ولشرف السلاح

وقد تعمشق فساد الطائفية يحتمي بالمقاومة

وتوزع دعاة التغيير على السفارات يكتبون عهود المساومة

صارت صبية تجاهر بالدعوة للانتداب

وصار مفخرة بيع الوطن في سوق الكلاب

وصار المقاول السمسار يحاضر بما يقول الكتاب

هكذا تضيع الأبجدية ويختلط الحق بالباطل

هكذا يصير الجمع سهلاً بين القاتل والمقاتل والمقتول والمقاول

هكذا تعلَّق سيوف العز وخناجر الفتنة معاً على المشانق

ويصير رئيس أجنبي أو قنصل زائر يرسمان الطريق والمفارق

نودع المشتاق ونستقبل العاشق

نبيع أشلاء وأحشاء المدينة

وقد صارت صوراً للذكريات وتذكارات للزينة

وطريقنا مسدود بين فساد يبيع وفساد  يشتري وفساد يسمسر

فساد يعيش على القنابل الموقوتة وفساد يعتاش على تفجيرها وفساد يثرثر

***

يسأل الطيّبون والشعراء والفلاسفة عن المدينة

رصيدهم ألف خطاب وألف كتاب وألف لوحة وقصيدة حزينة

والمدينة تمزّقت بين مَن يملكون ألف حساب وحساب

حسابات نصفها مهدد بالإقفال ونصفها يفتح اليوم

نصفها غارق في الإهمال ونصفها يصحو من النوم

عندما يسقط الكلام وينتصر الغضب تسقط المدينة

عندما يسقط أكثر من النظام وينتشر اللهب تموت السكينة

المدن تحيا وتنمو في الطرق المتعرجة وصراخ الباعة

والمدن تموت في الثورات المتدحرجة على توقيت الساعة

كما تموت المدينة في فساد النظام المتعمشق على المقاومة والممانعة

***

لا يشبهنا من يحملون الآلات الحاسبة وساعات التوقيت الدقيقة

مدينتنا هي التي ماتت ومدنهم تعود للحياة بدقيقة

هل نبيع لليأس قلوبنا أم نزرع الأمل؟

هل نبيع الغد للمجهول أم نسأل ما العمل؟

هل نطرح الأسئلة الواحدة حتى نصيغ لها أجوبة؟

أم أننا كما كل مرة نعيش على تناقض القضايا والحكايا والأحلام المعلبة؟

ليس من حقيقة في المنطقة

ليس من حقيقة مطلقة

إلا إن أدرنا وجوهنا نحو الجنوب

إلا أن تخرّجنا من ذل السؤال الحروب

هناك فقط تنتصب للحق بوصلة

ونتساكن في ما عدا مع بقاء الأسئلة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى