أولى

المشروع والبرنامج… قبل السلاح أحياناً

 المهندس خالد الرواس

 

 لم ترتبط يوماً في بلادنا، مسألة المواجهة مع «إسرائيل» ببرامج، لا عسكرية ولا سياسية ولا اقتصادية اجتماعية ولا تنموية ولا حتى مالية، بما يضمن نتائجها، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، فترى العدو على مرّ السنين يعتدي على محيطه ويبقى ينمو تقدماً، ونحن في خط المواجهة نركُد تراجعاً، فالمواجهات مع العدو، منذ العام 48، غالباً ما كنا نَعمَد فيها، كمعتدى علينا، الى رفع عناوين وشعارات ثورية تعبوية بوجهه، كنا نستكملها بامتلاك السلاح، كمّاً ونوعاً، دعماً وتعزيزاً للردّ، مع شيء من التنظيم وتمويل «أخوي» خارجي، على اعتبار أن مجرد رفع الشعارات وامتلاك السلاح والقيام بعمليات رد، ولوغير نوعية، وكأنه أمرٌ كافٍ لاسترداد حقٌ مسلوبٌ أو بعضه، في حين ان رد الاسترداد، هوليس كرد الاعتبار، لأنه يجب ان يُبنى في الأساس على مشروع مواجهة ذات برنامج نوعي مدروس وذات سقف زمني، على خلفية سياسية وطنية، يتأمّن له التمويل الوطني اللازم والغطاءين الرسمي والشعبي، تَحضُر فيه الشعارات والسلاح كنتيجة، أو كحاصل لا بدّ منه، من ضمن سياسة مواجهة وبرنامج اقتصادي اجتماعي، وليس من خارجها، على أن تكون نتيجته الحتمية المطلوبة توصِل الى استرداد الأرض والحق، وليس بعرض العضلات، التي طالما وظفها العدو لمصلحته، لكونها مكشوفة أمامه، سياسياً واعلامياً، في ظلّ الخلل القائم في موازين القوى لصالحه، فيخسر بذلك صاحب الحق معركته بوجه عدوه قبل أن تبدأ.

 وبالحديث عن المحيط، أيّ الدول العربية، فهي تمتلك كميات كبيرة من الأسلحة، معظمها تقليدي ومتطوّر، يمكن أن يُحدث خللاً في موازين القوى مع العدو، فيما لو اتحدت تلك الدول في ما بينها، أقلّه بالقرار السياسي، والذي نراه صعب التحقق، في ظلّ خضوع معظم تلك الدول لأجندات خارجية تسيطر عليها وتدور في فلكها، لذلك فالرهان عليها لدعم مشروع المواجهة، يبقى سراباً ولا طائل منه.

 ذلك أنّ معظم الأنظمة العربية، غير مهيّأة أصلاً لخوض حروب، لكونها في الأساس صنيعة استعمار، متحالفة سراً أوعلناً أو مواربةً معه، تخدم مصالحه، فهي بذلك تكون أنظمة مكشوفة، مخترقة، تُعلّم أطفالنا مناهج التبخير والتمجيد بحكامها، على حساب مفاهيم الوحدة الوطنية والهوية القومية، القائمة أساساً على لغة الضاد التي تجمع الشعب العربي الواحد بكلّ مكوناته ومصالحه المشتركة على أرضه الكبرى، وبالتالي تكون تلك الأنظمة قد أخرجت نفسها من دائرة الصراع الى دائرة الخنوع والعمالة، وصولاً للتطبيع والخيانة، علينا الابتعاد عنها، من دون استعدائها، لكي نتجنّب شرورها في معركتنا مع العدو.

 وعليه، تبقى مسألة «المقاومة» كمشروع، السبيل الأوحد لاسترداد الأرض والحقوق السليبة من العدو، لكن على ضوء برنامج وطني يأخذ في الاعتبار الشروط الفضلى والضرورية لنجاحها، أولها أن تكون «المقاومة» وطنية، تنشأ بإرادة وطنية جامعة، عابرة لحالة التعدّدية ضيّقة الأفق نظراً لفئويتها، تكون ممولة من الدولة والشعب، بصفته الشريك الداعم والحاضن لها، المكمّل لبقائها واستمرارها، له ما لها وعليه ما عليها، مستندةً بذلك الى اقتصاد إنتاجي داخلي متنامي، فاعتماد أيّ مقاومة على تمويل خارجي، بشكلٍ فئوي أوخاص أو أحادي، من خارج المنظومة الوطنية، أثبت فشله، وهو أمرٌ يمس بالسيادة والكرامة الوطنية ويستنفر من جديد حالة الانقسام التعدّدي الداخلي الذي يتحوّل سريعاً الى خلاف ففوضى فاتهامات ففتن، تقع خسارتها على الجميع، فحركات التحرر الوطني على مدى التاريخ كانت وطنية وبتمويل وطني، إذ لا يمكن أن تكون أجندة «مقاومة» منفصلة عن أجندة رجل الشارع والمواطن، وإلّا تكون قد ابتعدت عن السبب الذي وُجدت من أجله، بما سيطرح علامات استفهام حول مقاصدها وأسباب وجودها وخلفياتها وأرائها وأدائها وأهدافها، التي لا تعود تخدم مجتمعها ومواطنيها، فتصبح بذلك عبئاً عليهم بدل من أن تكون سنداً لتقدّمهم أو حلاً لمشكلاتهم على المستوى الوطني.

 أما في لبنان، فنحن لسنا في حالة ضعف أو انهزام، بالرغم من الصعوبات، لكن يجب أن لا نصوّر الأمور أيضاً على غير حقيقتها، تلافياً للصدمات، فالمصارحات باتت مطلوبة، لأنها تبدّد المخاوف في زمن التداعيات، وتعزز ضرورة الاستمرار ولو كان الطريق شائكاً، فالمجتمع المقاوم يستحق بأن يسمع الحقائق المجردة من قياداته، كلّ الحقائق، من دون أيّ تزلف أوتكاذب أو مناورات كلامية، من أيٍّ كان تجاه أيٍّ كان، إجلالاً واحتراماً لقيمة العمل المبذول منه لإنجاح هذا المشروع، وعلى قاعدة الخطاب الواحد لا الخطابين، إذ لا يُعقل بعد اليوم أن يجتمع البذل مع الفساد، أو مواجهة العدو مع حالات النهب والمحاصصات، أو وطنية المشروع مع فئوية السياسات، أو ن يكون قَدَر المواطن الحر النظيف مرتبطاً بوجود لصوص في السلطة، أو أن يَفقَر الشعب ويجوع في ظلّ تحديات خارجية كبرى يواجهها البلد، فتلك أمور هدّامة، مؤذية، من شأنها أن تجرّ البلد الى هزائم مؤكدة، بأكلاف باهظة، خصوصا إذا كانت أسباب الارتكابات داخلية، من ذوي نفوذ فاسدين يعرقلون عملية الإصلاح، ويتنكّرون لحقوق الناس، ويناورون في معركة استعادة الثقة الاقتصادية والمالية، ويراهنون بكيدية شرسة على بقائهم واستمرارهم في السلطة، متنكرين بأثواب العفّة والخشوع والحكمة والتضرّع، ألبسوا الناس بنتيجتها أثواب الفقر والجوع والذلّ والتشرّد، فالطبقة السياسية الحالية متورّطة بكلّ ما سبق من إخفاقات وتداعيات وانهيارات سياسية واقتصادية ومالية يدفع ثمنها الناس من تعبهم ومن أرزاقهم وصحتهم ومستقبل أولادهم، على النحو الذي يشكل خطراً كبيراً وداهماً على أيّ مشروع استنهاضي أو مقاوم، فقد سمحت تلك الطبقة بانكشاف البلد أمام الخارج، لجهة أننا قصّار، وعاجزون عن حكم أنفسنا، ومتخلين عن مسؤولياتنا الوطنية لأغراض فئوية وعصبوية ضيقة، وغير مكترثين بسمعة بلدنا أوبحقوق مواطنينا، أو بمصالحنا الوطنية العليا، وانّ العدالة في بلدنا هي مجرد وجهة نظر، الأمر الذي بات يفرض علينا ضرورة تغيير هذا النهج القائم بوجوهه الفاسدة كافة، والتي أرهقت البلاد والعباد على مرّ السنوات، بما يساعد على إعادة تنشيط الدورة الاقتصادية، والى تعزيز عوامل النمو، لتشكل بدورها رافعة أساسية لاستمرار الحياة الكريمة، تعطي نفساً لمشروع المقاومة وطنياً، يكون قابل للعيش، في مواجهة عدو غاشم متربص، وبما يساعد على بناء أسس تمهّد لمستقبل أفضل للأجيال القادمة. وللحديث تتمة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى