نقاط على الحروف

بين مالك وشيحا والراعي وماكرون؟

ناصر قنديل

من المؤسف أن يقول البطريرك بشارة الراعي أن حزب الله اتهمه بالعمالة وقام بتخوينه، بينما يؤكد كل من حاول التعرّف إلى موقف لحزب الله رداً على دعوة الحياد التي أطلقها البطريرك، كان يلقى جواب الامتناع عن التعليق، انطلاقاً من عدم الرغبة بإعلان موقف مخالف ينسجم مع رؤية المقاومة، فيقع حيث لا ترغب المقاومة من خطوط تماس طائفية ويُقرأ بلغة العصبيات، ويفتح الباب لدخول متربّصين يرغبون بصب الزيت على النار ويحوّلون الاختلاف إلى اتهامات متبادلة بالتخوين والعمالة. والدعوة مفتوحة للبطريرك بأن يتعالى عما وصله من مزاعم وجود اتهامات وتخوين من حزب ومقاومة يبديان كل الحرص على التروي في اتخاذ المواقف من موقع السعي إلى تخاطب يليق بالمقامات ومنها مقام بكركي، وتعبيراً عن الحرص على الوحدة الوطنيّة وتأسيساً على إدراك المقاومة والحزب الأهم فيها للحساسيات والخصوصيات اللبنانية، وليس سراً أن نقول بأن تفاهماً بين الرئيس نبيه بري والسيد حسن نصرالله قضى بامتناع الفريقين ومنابرهما عن التعليق على دعوة البطريرك للحياد، وعبّرا عن امتعاضهما من الأصوات والمواقع الدينية والسياسية والإعلامية التي خالفت هذا التوجّه، بينما كان من حقهما أن يتوقعا من بكركي حرصاً مشابهاً يتجسّد بأن تناقش رؤيتها قبل أي انتقال نحو الإعلان مع سائر المكونات اللبنانية بصفتها دعوة للتوافق قبل أن تتحول في المنابر، كما هو الحال اليوم، إلى أداة للتشهير بالمقاومة وسلاحها ومحاولة لتحميلها ظلماً مسؤوليات وأوزار الأزمات، وإتاحة الفرصة للمتربّصين بها لاستغلال خطاب بكركي وتوظيفه للإيحاء بأن الحملة التي تستهدف المقاومة باتت تستند إلى أرضية صلبة تتجسّد بحديثهم عن ريادة بكركي لهذه الحملة الهادفة للشيطنة والإساءة والاستهداف، والصمت هو أعلى ما كان بيد الفريقين تعبيراً عن الحرص والاحترام المنتظر تبادلهما مع مقام بكركي، لإفساح المجال أمام أحاديث الغرف المغلقة في كل قضية خلاف.

دعوة بكركي وخطاب البطريرك يتمّ تقديمهما كقراءة لمستقبل لبنان بمناسبة مئوية لبنان الكبير، ومشروع عقد سياسي جديد، يستفيد من تجارب الماضي ومخاطر الحاضر، ومن المستغرب أن يشير البطريرك إلى خشية من أن يكون المقصود بالعقد الجديد دعوة للمثالثة سبق ورفضها الرئيس بري قبل عقود، ورفض حزب الله عروضاً طائفية أكثر سخاء لمقايضة قوته المقلقة لأمن كيان الاحتلال بها، وأكد ويؤكد الطرفان تمسكهما بالحفاظ على مكانة ودور المسيحيين في لبنان والمنطقة بصفته وجوداً تأسيسياً للشرق لا تقرره أعداد المسيحيين فيه، وتجب طمأنته بكل عناصر الاستقرار الوجودي، لما يمثل من قيمة مضافة يفقد الشرق الكثير من ميزاته بخسارة هذا الوجود أو إضعافه، وليس خافياً أن الفريقين المعنيين ضمناً بتهمة المثالثة، يربطان كل دعوة لإلغاء الطائفية بالشراكة المسيحية الإيجابية والمطمئنة بها، من جهة، وبضمانات تحقق الاطمئنان الوجودي للمسيحيين من جهة مقابلة. والنقاش حول عقد سياسي جديد هو نقاش مطلوب بين اللبنانيين على قاعدة هذه الثنائية، كيفية التقدم نحو دولة ديمقراطية لا تقيّدها فدرالية المحميات الطائفية، وتوفير الضمانات لعدم تحوّل الديمقراطية إلى أداة لغلبة طائفية أو لزعزعة التوازنات بين الطوائف، وعناصر الاطمئنان الوجودي لديها.

بعد مئة عام على قيام لبنان السياسيّ الذي نعيش في ظله يبدو مفيداً أن نعود إلى ما كتبه مفكران لبنانيّان مسيحيّان كبيران، كان لهما عظيم الأثر في التنظير للبنان الكيان، وصولاً للحديث عن قومية لبنانية، ويحاول كل متحدث مسيحي في السياسة أن ينتسب إلى إرثهما وأن يربط مواقفه بما نسب إليهما. والمقصود طبعاً شارل مالك وميشال شيحا، اللذان رسما صورة الكيان اللبناني وقواعد نموه السياسي والاقتصادي، وحذّرا بصورة لا تقبل التأويل مما يعتبرانه مصادر خطر محدق بالكيان، حيث شكلت نهاية أربعينيات القرن الماضي موعداً لحدث مزلزل هو ولادة كيان الاحتلال عام 1948، هذا الحدث الذي سيجعل كلاً من مالك وشيحا يعيشان حالة ذعر على مصير الكيان اللبناني، ويعتبران المخاطر التي يحملها تدعو لتنبه اللبنانيين لمستقبل في بيئة تزداد وعورة من حولهم، حيث يلتقيان كل من موقع قراءته على اعتبار لبنان هدفاً دائماً للتوسع الصهيوني، وتهديداً بنيوياً لثقافة العيش المشترك التي يقوم عليها لبنان، وإطلاقاً لمناخات التطرف والتعصب المرتكز على الهوية الدينية ما سينتج موجات زمنية وجغرافية متتابعة من التهديد للسلم الداخلي بين اللبنانيين، والدولة اليهودية العنصرية كما يصفانها، بالاستناد إلى بأس المال وبأس القوة، ستشكل التهديد المصيري لدور لبنان الضعيف الحيلة في المجالين بالمقارنة والقياس، والكيان الجديد القائم على تهجير الفلسطينيين سيضخ إلى لبنان موجات من اللاجئين الفلسطينيين الذين سيشكلون مصدر قلق على التوازنات الطائفية، كلما بدت عودتهم إلى ديارهم بعيدة المنال.

في تقرير لشارل مالك عام 1949 من موقعه في الأمم المتحدة أرسله لرئيسي الجمهورية والحكومة، يذهب أبعد من ذلك، مشيراً إلى أن عهداً قادماً على المنطقة هو العهد اليهودي، وأن فلسطين هي مرآة الوضع في الشرق الأوسط، وأن وزن العرب الضئيل سيساعد على تنامي الوزن «اليهودي»، محذراً من أوهام الرهانات على المواقف الدولية حيث سيقف الغرب وفي طليعته الأميركيون إلى جانب «اليهود»، فيقول «في كل تعارض جوهري بين المصلحة الإسرائيلية والمصلحة العربية ستؤيد أميركا المصلحة الإسرائيلية. وأحذّر كل التحذير من الارتماء الأعمى في فخ إغراءات المشاريع الإنشائية الأميركية بدون تمحيص تام لها ولعلاقة اليهود بها»، مقترحاً مواجهة تقوم على بناء جيوش عربية ونهضة عربية حركة تحريرية تقودهما شراكة لبنان وسورية، مراهناً على دور للكنيسة الكاثوليكية العالمية في نصرة القضية الفلسطينية ومواجهة الخطر «اليهودي» على لبنان والمنطقة، تقوده الكنيسة المسيحية في الشرق التي يشكل لبنان قاعدتها الأهم.

إن ثلاثية الخطر التوسعي والخطر البنيوي والخطر الاقتصادي لكيان الاحتلال ومعها قضية اللاجئين الفلسطينيين، وصفت أولاً بنظر ثنائي مالك وشيحا ما يجب أن يشكل محور السياسات اللبنانية، داخلياً وعربياً ودولياً، وأسقطت الرهان لديهما ثانياً على فاعلية المساعي الدولية ما لم تكن بحساب المصالح والقوة قادرة على دخول المعادلات الكبرى. فالتسوّل من موقع الضعف طلباً للحماية لن يأتي بغير الخيبات، وتطلعا في رهانهما ثالثاً على دور طليعي للكنيسة في تصعيد وتزخيم مصادر القوة في الداخل، وفي التوجه نحو الخارج من هذا الموقع القوي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، لاستنهاض الكنيسة العالمية أملاً بخلق توازن يتيح حماية لبنان، فهل ثمة ما يقول اليوم بأن الخطر قد زال، أو أن الوضع العربي بات أفعل، أو أن العلاقات الدولية تغيرت قوانين حركتها؟

المقاومة القادرة التي حرّرت، وردعت، وتحوّلت إلى مصدر قلق على أمن الكيان ووجوده، وصارت محور السياسات الغربية لهذه الأسباب، بقدر ما تشكل واحدة من تجليات ما طلبه شيحا ومالك من اللبنانيين، فهي كمقاومة عاقلة وحريصة تشكل الحلقة المفقودة التي يجب أن تفرح بها بكركي لملاقاتها في منتصف الطريق على تكامل في الأدوار، يترجم ما يجب فعله لحماية لبنان، وعندها لا مشكلة بالتمايز والتنوع اللذين يقويان المواقع والمواقف، بينما ما يرد في مواقف بكركي لا يفعل شيئاً سوى أنه يضعف مصادر القوة، ويجهض فرص التكامل بين السياسة والقوة، ويفتح شهية المتربصين بالمقاومة على إمكانية إضعافها أو عزلها، بدلاً من السعي لتقديم الضمانات لحقوق لبنان واللبنانيين، طلباً لتهدئة المقاومة، بينما لم تقل مبادرة الحياد، «ولو تنشّط» كيف ستحل قضية اللاجئين في زمن التخلي العربي، وكيف ستحمي دور لبنان الاقتصادي في زمن «التطبيع»، وكيف ستحمي لبنان من خطر العدوان في زمن تفكيك الجيوش العربيّة، ومن سيستفيد من إضعاف المقاومة والنيل من معنوياتها وسمعتها غير التطرّف التكفيري المتربص بلبنان والشرق والمسيحيين فيهما كما بسائر المكوّنات؟

تجديد لبنان الكبير يبدأ بالحوار بين اللبنانيين، حول تفاهمات تعالج مكامن الخلل وتستثمر على مصادر القوة، وبكركي أول المدعوّين للانفتاح على المقاومة والاستثمار على مصادر قوتها، بعدما رأت بأم العين كيف أن فرنسا جاءت لتعترف بأن المقاومة حقيقة غير قابلة للتهميش والإضعاف، وهي تتحدث بلسان حلفائها الذين تعتبرهم بكركي الأصدقاء الذين تخشى من خسارة لبنان لدعمهم، بينما تثبت الحركة الفرنسية أن السوية الوحيدة للفت انتباه هؤلاء نحو لبنان ومد اليد لمساعدته، هي في القلق الذي تسبّبه المقاومة لديهم على أمن «إسرائيل» ووجودها، بينما اطمئنانهم لزوال هذا القلق كما تتضمن دعوات الحياد لن تعني سوى صرف هذا الانتباه وسحب الأيدي بل وغسلها من كل ما يتصل بلبنان. ولعل هذه هي الخلاصة الأبرز التي قرأها شيحا ومالك قبل سبعين سنة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى