مقالات وآراء

القومية الاجتماعيّة فلسفة العولمة الإنسانيّة الراقية

قوام كل فلسفة: فيلسوف وقضيّة ومقبلون على الدّعوة

 

الوجدان الاجتماعي يحفّز الأمة على الارتقاء الإنساني
الذي يتخطى حدود المكان وأبعاد الزمان الى ما هو أعمق وأوسع وابعد
ممهداً لولادة إنسان ـ الأمم انطلاقاً من الإنسان ـ المجتمع أي إنسان ـ الإنسانية المتولد من رحم انتصار حضارات القوميات ـ الاجتماعية في العالم
وليس من همجيات الجماعات التوحشية التي تبيد بعضها بعضاً
بحيث يتساوى مصير المبيد والمباد بالإبادة.

***

كل عولمة لا يكون أساسها العقل الإنساني المحبّ للحياة وسموّ الحياة
ولا تكون فاعلة بقيم الحق والعدل والتراحم والتحابب والتآخي القومي الاجتماعي الإنساني، ولا اتجاهها نحو مرامي الإنسانية في النموّ والتقدم والهناء لجميع بني البشر، ولا يكون صراعها من أجل الحياة الأفضل والمثل العليا السامية هي عولمة باطلة لا جدوى منها ولا نفع.

 يوسف المسمار*

كل دعوة او رسالة مهما كانت طبيعتها، تتطلّب من الداعي أن يكون قدوة للمدعوّين في فهم الدعوة، وفي العمل على تحقيقها، وفي تنمية وترقية مفاهيمها، وقدوة في التضحية في سبيل انتصارها. وعندها يحظى صاحب الدعوة، بالثقة المطلقة والاحترام الكامل، ويقود أمته الى النجاح والفلاح والنصر. ويُقبل أفراد الجماعة على الدعوة بقوة وحماس ويتنافسون ويتسابقون في العمل والجهاد والتضحية من أجل انتصارها مهما كانت المصاعب والتضحيات.

المبدأ الديمقراطي الذي أطلق عليه المعلم أنطون سعاده: «مبدأ الديمقراطيّة التعبيريّة» التي تقوم على وعي الجماعة، وايمانها القائم على الوعي والاقتناع، واحساسها أن صاحب الدعوة صادق في دعوته نيةً وقولاً وتصرفاً وعملاً وجهاداً وعطاءً، وفوق ذلك شعورها العميق ان صاحب الدعوة محبٌ لجماعته، عاشق لتوعيتها ونهوضها، ومؤمن بجمال نفسية جماعته الى حد الاستشهاد في سبيلها.

عند هذا الحد تنجبل نفسية القائد الجميلة المؤمنة بجمال نفوس مريديه وتتوحّد، وتنشأ الشخصية الاجتماعية الجديدة، وتتوحّد بنظرته الى الحياة والكون والفن نظراتهم فيتجلى مبدأ الديمقراطية التعبيرية بأجمل مضامينه وأبهى مظاهره مما جعل المعلم سعاده يقول: «إن زعامة الحزب السوري القومي الاجتماعي هي أصح تعبير عن الديمقراطية. إن هذه العقود الثنائية بين صاحب الدعوة الى القومية السورية وبين المقبلين عليها وتكريسها بالقَسَم الحزبي الواضح الصريح، لهي الدليل العلمي الملموس للديمقراطية بمفهومها العلمي المختص».

ويضيف على ما تقدم: «ما هي الديمقراطية؟ أليست الاختيار بموجب الإرادة الحرة المطلقة بين القبول أو الرفض لأمر من الأمور؟»، أليس قبول الآلاف لهذه الزعامة على هذه الأسس من الذين أصبحوا أعضاء في هذا الحزب هو أكبر استفتاء شعبي يشهد على ممارستهم الأصول الديمقراطية في الاختيار؟». 

بهذا الوضوح يتجلى المفهوم الديمقراطي التعبيري وتتضح قيمة قول سعاده الراقي المعبّر حين قال:

«لم آتكم مؤمناً بالخوارق بل بالحقائق التي هي أنتم».

هذه هي الديمقراطية: اختيارٌ حُرٌ بعد اقتناع بقضية، وإرادةٌ حرّةٌ مطلقة تقبل أو ترفض بعد معرفة موضوع، تتجه أو تحجم عن الاتجاه بعد فهم اتجاه، وتُطيع وتلتزم بأوامر من تراه قدوة يقودها للسير في الطريق الأفضل أو تسفّه وتتمرد وتحارب من تراه يبيع الشرف بالسلامة ويبيع العز بتجنب الأخطار.

مقوّمات فلسفة الحياة

إن فلسفة الحياة الراقية مثلثة الأضلاع: فيلسوف عبقري نابغة موهوب، ونظرة كلية شاملة الى الحياة والكون والفن، وتلامذة جنود يتنافسون في التعبير السليم عن حقيقة فلسفة الحياة وعياً راقياً، وممارسة صادقة، وإبداعاً فكرياً وعملياً متصاعداً، وتجديداً دائم الحداثة والعصرنة والريادة.

أعود إلى ما ورد في مقدمة كتابي: «مفاهيم قومية اجتماعية»

«الفلسفة الحقة في الحياة هي فلسفة الحياة. هي في الارتفاع فوق الأمور الصغيرة الدانية، وفي التفكير في الحقائق الأساسية، والمرامي الأخيرة السامية التي تحرّك داخليّة الفيلسوف، وتستنفر قواه ومواهبه وعبقريته فيُخطط لحياة جديدة راقية، راسماً لأمته أجمل المثل، وأسمى المطالب».

«والفيلسوف الحق هو المعلم، الفنان، القائد، النابغة الذي يستطيع بما يمتاز ويتميّز به من مواهب ونبوغ وعبقرية أن ينهض بالحياة، وبالنَظر الى الحياة. فيضع قواعد عهد جديد لشعبه، ويوجد تعاليم فلسفية سامية تنبثق من نظرة سامية شاملة الى الحياة والكون والفن تستوعب أسمى المقاصد، وأرقى المطامح النفسية، نافذة الى أعماق السرائر، مُحركة خصائص النفسية الأصيلة التي تُفَجر في الأنفس كل قيم ومناقب الوعي والمعرفة والتفوق والصراع والبطولة، فتثور على عهودها المظلمة، صانعة بنفسها تاريخها الجديد بوعي لا تعتريه أضاليل، وإيمانٍ لا تزعزعه محن، وإرادة لا تقهرها نوازل، وروحيّة لا تقبل بأقل من تشريف الحياة وتحسينها  وترقيتها».

«وتلامذة الفيلسوف الأصحاء هم أولئك الذين وُلدوا بالتعاليم النيّرة المُحيية ولادة جديدة فنهضوا، وثاروا، وحققوا الاستمرار الفلسفي بين قديمهم الأصيل، وجديدهم النهضويّ الأجود، فأطلوا بهذا التحقيق الرائع على أفق جديد وكانوا بنهضتهم طليعة انطلاق الى بلوغ مشارف عالم أجمل».

فلسفة سعاده من «الأنا العارفة»الى «الاجتماعية المنفتحة»

ولأنه أتى بالحقائق التي هي أبناء شعبه السوري، فقد آمن سعاده بشعبه الذي هو بالنسبة له حقيقة الحقائق التي أحبّها بكلية وجوده، فأحب شعبه ونذر نفسه ليكون زعيمه الذي يفتديه بكل ما وهبته العناية الخالقة من مواهب وقوى وطاقات وإمكانيات تكثفت بالتزامه تعليم وهداية أبناء أمته لتقوم أمته السورية وتلتزم بمسؤولية تعليم الأمم وهدايتها الى ما يجعل المحبة جوهر فلسفته الإنسانية الحضارية معلناً لمن آمن به إعلان مسؤول ملتزم: «آمنتم بي معلماً وهادياً للأمة والناس وآمنتُ بكم أمة معلمة وهادية للأمم» ليظهر بكل وضوح شعاع نظرته الى الحياة والكون والفن الكلية الشاملة التي لم تنغلق على ذاتها فتتحوّل الى أنانية فردية انعزالية خانقة، ولا على أتنية دموية خرافية مضللة، ولا على طائفية تكفيرية قاتلة، ولا على قومية عرقية عنصرية مدمرة، ولا على وهم خوارق سحرٍ مبلبلة خادعة.

إنها نظرة منفتحة واعية تنطلق من يقظة الإنسانالفرد وظهور شخصيّته المتحرّرة من قيود أنانيته المتمترسة «بالأنا» والمنطلقة الى رحاب «النحن»، والمتحفّزة الى الحياة الاجتماعية الأرقى في الإنسانالمجتمعالأمة المتبلورة فيه شخصية الجماعة المركبة اجتماعياً واقتصادياً ونفسانياً وسياسياً في وجود طبيعي يتمتع بذات عامة مستيقظة، ووجدان قوميّ اجتماعي واعٍ يجمعن الفرد ويفردن المجتمع في وحدة الأمة وسلامة وعيها الاجتماعي.

فالوجدان الاجتماعي يحفّز الأمة على الارتقاء الإنساني الذي يتخطى حدود المكان وأبعاد الزمان الى ما هو أعمق وأوسع وابعد، ممهداً لولادة إنسانالأمم انطلاقاً من الإنسانالمجتمع أي إنسانالإنسانية المتولد من رحم انتصار حضارات القومياتالاجتماعية في العالم، وليس من همجيات الجماعات التوحشية التي تبيد بعضها بعضاً، بحيث يتساوى مصير المبيد والمباد بالإبادة.

حضارة راقية عولمة راقية

إن تحقيق فلاح الأمة بقيادة قائد واعٍ حكيم صادق معطاء يجعلها أمة مهتدية معلمة، لنفسها ومعلمة وهادية لغيرها. وهداية الأمة لغيرها تكون بحضارة إنسانية راقية وليس بإرهاب سلاح يفتك بالبشر والحجر والشجر. والحضارة الراقية هي قاعدة الأساس للعولمة الإنسانيّة السامية.

شخصيّة أنطون سعاده

أول ما يساعدنا على تفهّم شخص وشخصيّة انطون سعاده فهماً جيداً هو ما جاء في رسالته من سجن الرمل بتاريخ العاشر من كانون الأول سنة 1935 الى محاميه الاستاذ حميد فرنجية، حيث قال فيها:

«كنتُ حدثاً عندما نشبت الحرب الكبرى سنة 1914 ولكني كنت قد بدأت أشعر وأدرك. وكان أول ما تبادر الى ذهني، وقد شاهدتُ ما شاهدت، وشعرتُ بما شعرت، وذقتُ ما ذقت مما مُنيَ به شعبي، هذا السؤال «ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟».

ويضيف: «وبديهي اني لم أكن اطلب الإجابة على السؤال المتقدم من اجل المعرفة العلمية فحسب. فالعلم الذي لا يفيد كالجهالة التي لا تضر. وإنما كنت أريد الجواب من أجل اكتشاف الوسيلة الفعالة لإزالة أسباب الويل».

 ولأن اكتشاف الوسيلة الفعالة لا يحصل بالارتباك والاضطراب بل بالوعي وهدوء الأعصاب، فقد ركز اهتمامه على تعميق معرفته باجتهاده، وتوسيع آفاق نظره بمتابعة مطالعاته وجدية تحصيله، وشدّد جهده على توعية أبناء مجتمعه وتثقيفهم ليشاركوه هذا الأمر، لأن الويل حلّ بشعبه كله.

ومن أجل ذلك رسّخ جهده للتأكيد على صحة المبادئ التي وضعها وأراد تحقيقها لتخليص المجتمع من الفكر المضطرب الذي عرّض المجتمع كله الى الرزوح تحت مصائب هذا الويل، وجعل الأمة معرّضة «للتفرقة بين عوامل الفوضى القوميّة والسياسيّة المنتشرة في طول بيئتنا وعرضها»، كما قال في خطابه المنهاجيّ الأول سنة 1935).

الفوضى نتيجة الأفكار المضطربة

ولأن الأفكار الهدّامة المضطربة لا تقود إلا الى التيه والفوضى، فقد نبّه سعاده من خطورتها، وهو الذي قال: «أما التكلّم المبعثر على فولتار وموليار ولنكلن وهيقل ووليام جايمس وكانت وشوبنهورالخ وعلى مختلف المدارس الفكرية، من دون أن يكون لنا رأي وموقف واضح في تلك الأفكار وأولئك المفكرين، فلا يعني أن لنا نهضة. إن ذلك لا يعني الا بلبلة وزيادة تخبط. إن الفكر البعيد عن هذه القضايا هو أفضل من الفكر المضطرب المتراوح الذي لا يقدر أن ينحاز او أن يتجه، لأنه متخبّط وليس له نظرة أصلية، ولا يدرك ماذا يريد».

أنطون سعاده واضع العقيدة المحيية، أوضح أن الخلاص لا يأتي هيّناً من الغيب ولا من الغير. لا من الصدف ولا من أعمال السحر. لا من الآخرين الأقربين من الداخل ولا من الأبعدين من الخارج. الخلاص من الويل لمن عرف أسباب الويل يكون في مبادرة العارف وتحمّل المسؤولية طوعاً واختياراً سواء رغب القريب او البعيد أو نكر على متحمّل المسؤولية ذلك. وهذا هو الواجب الذي يتطلبه الوعي الناضج العاقل الرشيد الذي جعله سعاده إحدى دعائم الحزب السوري القومي الاجتماعيّ المعرفيّة الذي لا يُفرض بسطوة مستبدٍّ طاغٍ، ولا بقانون سلطة وقوى محاسبة من خارج النفس، بل هو الواجب الذي يُشعر النفس الواعية المتيقظة المدركة بالفرح والسعادة فتقوم بتأديته بكل إخلاص وكل عزيمة صادقة، لأن القيام بمثل هذا الواجب النفسي الضميريّ يصبح طبيعة في الشخصالفرد تماماً كما تفيض طبيعة الضوء بالنور، والعطر بالرائحة الطيبة، والنفس الجميلة بالجمال.

يقول سعاده:

 «الفكر المضطرب يبتدئ بالتأثر بأحد المفكّرين ثم ينتقل الى آخر ثم يحصر نفسه ضمن نطاق بعض الأفكار ولا يعود يخرج. ويبدأ بمناقضة كل مَن له رأي آخر فتنشأ حالة الفسيفساء التي تتقارب قطعها ولكنها لا تتّحد.

إن مثل هذا الفكر لا يمكنه أن يحقق شيئاً. الإنسان الذي لا يزال على سذاجة الفطرة له شخصيّة واستقلال نفسي وجوهر أعظم من شخص وضع نفسه أداة تسير بأفكار بعيدة عن حقيقته. إن الأفكار المعتنقة اقتباساً من الخارج لا تحرّك عوامل النفسية الصحيحة».

لقد عيّن لنا سعاده بهذا الكلام الواضح أن فكر المرء الصحيح هو الذي ينبثق من حقيقته المجتمعيّة. ومهما كان اقتباس الأفكار أميناً من الخارج فلن يتمكن من تحريك عوامل النفس الصحيحة بشكل خالص، وسوف يستمر تضارب الأفكار المستوردة حتى تُولّد الفكر المضطرب المتضارب تضارباً نتيجته الظنون، والمتشتت تشتتاً حصيلته الأوهام. وحصاد الظنون والأوهام لا ولن يكون الا الخيبة والإخفاق. كما أن الفكر المضطرب لا يجعل صاحبه يتحمّل أيّة مسؤولية، ولا يُشعرُه أن عليه القيام بأي واجب.

طريق النجاة

لذا، فإن الفكر المتزن الهادف هو الفكر الملتزم بخير الجماعة والمنظم للجماعة الواعية فكرها ونموّها واستمرار تعافيها ورقيّها ليصبح النظام الإدراكي المعرفي الدعامة الضرورية الملازمة لدعم الواجب الذي لا يجوز أن يكون عبثاً من دون مردود نافع. وهاتان الضرورتان كانتا سبيل سعاده للبحث عن وسيلة إزالة الويل عن شعبه، فكان المسؤول النظاميّ في بدء مسيرته، الجدّي في البحث عما يمكنه من التخفيف من آلام شعبه والويلات التي حلّت وتحلّ به لإدراكه أن مَن يكون مقيّداً بالخوف والجبن والتقليد والتقاليد المهترئة لا يستطيع ان يساعد نفسه فكيف يمكنه ان يساعد شعبه.

باعتماد الفكر المتزن، وصل سعاده الى معرفة أهمية الحرية في الحياة كضرورة ثالثة لا تقل أهمية عن ضرورة الواجب والنظام. بل هي واجبة كوجوب النظام والواجب لأن الفكر الواعي يدرك إدراكاً تاماً أن من يكون عبداً لأوهامه من داخل، وأسيراً للطغيان من الخارج، وخاضعاً لقهر الأقربين ونفايات الموروث من التقاليد لا يمكن ان يتمكن من القيام بواجبه المفيد مهما كان نظامياً، ولا يمكن ان تكون نظاميّته في إنجاز واجبه وبالاً عليه وعلى شعبه.

وبهذا المستوى من الوعي والادراك اكتشف الضرورة التي لا تنفصل عن الواجب والنظام والحرية للتمكن من إزالة الويل الضاغط على شعبه فتُوقظ الشعب من غفلته، وتُخرجه من طفولته، وتُحرّره من أوهامه بضرورة توفّر القوة التي تكتمل بها وسيلة عافية المجتمع فينهض بين المجتمعات الحيّة أمة ناهضة تساهم في نموّ العالم وتقدّمه ورقيه، وتتخلّص من العيش على هامش الحياة بين مكبات نفايات الأمم المليئة بالمخلفات المتعفّنة.

القوميّة الاجتماعيّة وسيلة الإنقاذ

بتلازم الواجب والنظام والحرية والقوة، وتفاعل هذه القواعدالقيم فيما بينها أنشأ المعلم أنطون سعاده المنظمة السورية القومية الاجتماعية لتكون مختبر الحياة الجديدة الجيّدة، ولتكون فوق ذلك مدرسة تخريج بنات وأبناء الحياة الأصحاء الصالحين لتحقيق التغيير المرجوّ، والخروج من الخمول والفوضى والعبوديّة ومرض المقعدين المتخاذلين في مستنقعات الركود المميت. هذه المنظمة العامة التي تتناول الحياة القومية الاجتماعية برمّتها هي الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي قال عنه سعاده إنه: «فكرة وحركة تتناولان حياة الأمة السورية بأسرها»، وتقوم على دعائم مناقبيّة قيميّة هي: الحرية والنظام والواجب والقوة، ولا تؤمن بغير شرع أعلى إلا العقل الذي هو موهبة الخالق العظمى للإنسان، ورسوله الهادي الناطق الدائم الذي لا يجاريه ولا ينافسه رسول أو مصلح أو عالم حكيم، لأنه وديعة الله في البشر المزودة بطاقة وقوة النموّ والبقاء في الإنسان في من يحافظ عليها، وبطاقة وقوة التحرر والتخلص من الإنسان الذي يهملها، ويسهو عنها ولم يكترث بتفعيلها.

بالعقل النيّر المميّز أدرك سعاده سبب الويل الذي حلّ بأمته وبغيرها من الأمم، ووجد وسيلة إزالة الويل عن أمته وعن غيرها لأن المصلح الحقيقي الصادق لا يسعى الى خلاص نفسه ومجتمعه من ويل حلّ به بتحويل الويل ليحل بالآخرين، بل بإنقاذ الآخرين من الويل وإزالته عنهم كما ينقذ نفسه وشعبه. وهذا هو الواجب الذي دفعه الى إنشاء الحزب السوري القومي الاجتماعي القادر على إنقاذ الأمة السورية لأن بإنقاذ الأمة السورية يمكن ان تنقذ غيرها من الأمم لتمتد حركة الإنقاذ وتتسع الى انقاذ العالم كله من الويلات والمآسي.

 وهذا ما هدفت وتهدف إليه فلسفته المدرحية القومية الاجتماعية التي لا تحصُر مهمتها بترقية حياة أمته السورية وحدها بل بترقية حياة العالم بكليته الذي يتخبّط بين مختلف الفلسفات الجزئية المتضاربة والمتحاربة والمعرّضة مصير الإنسانية للفناء. وهذا ما اشارت اليه رسالة سعاده من الأرجنتين الى القوميين الاجتماعيين بتاريخ العاشر من كانون الثاني سنة 1947 التي قال فيها:

«إن العالم الذي أدرك الآن، بعد الحرب العالميّة الأخيرة، مبلغ الهلاك الذي جلبه عليه قيام الفلسفات الجزئية الخصوصيةالفلسفات الأنانيّة التي تريد أن تحيا بالتخريبفلسفة الرأسمالية الخانقة وفلسفة الماركسية الجامحة، التي انتهت في الأخير بالاتحاد مع صنوها المادية الرأسمالية بقصد نفي الروح من العالم، وفلسفة الروح الفاشية وصنوها الاشتراكية القومية المحتكرة الروح، الرامية الى السيطرة به سيطرة مطلقة على أمم العالم وشؤونها.. هذا العالم يحتاج اليوم الى فلسفة جديدة تنقذه من تخبّط هذه الفلسفات وضلالها. وهذه الفلسفة الجديدة التي يحتاج اليها العالمفلسفة التفاعل الموحّد الجامع القوى الإنسانيةهي الفلسفة التي تقدّمها نهضتكم».

المذهب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ

وعن الفلسفة الجديدة الماديةالروحية (المدرحية) نشأ المذهب القومي الاجتماعي وليس القومي الفئوي أو الاتني أو العنصري أو الديني أو الطائفي أو العلمي او المذهبي، بل القومي بالمعنى الإدراكي التنبهي لوحدة حياة الأمة وشخصيتها ومميزاتها ويقظة الوجدان الاجتماعي في أبنائها.

وليس أيضاَ الاجتماعي الشركاتي الاشتراكي التحالفي الفئوي الديني او الدنيوي، بل الاجتماعي بالمعنى الشمولي العام الذي يتناول ذاتية المجتمع العامة التي تمتد في جميع أفراد الجيل من دون تمييز بين فرد وفرد، وبين أنثى وذكر، وبين ثري موسر وفقير محتاج، وبين جيل وجيل، بل الاجتماعي الذي يشمل مجتمع الأمة بكاملها أفراداً وأجيالاً وإنسانيّة.

القومية الاجتماعية تعني شمول اليقظة الكل، ونضج الجميع، وتنبّه العقل في كل خلايا المجتمع ليكون مساهماً ومنافساً في رفع مستوى الإنسانيّة في كل أمة وفي كل مكان.

هذا هو المذهب القوميّ الاجتماعيّ الهادف الى توزيع الغنى على الكل توعيةً وتعليماً وتوجيهاً وترقيةً، بالاضافة الى العمل والإنتاج وتوزيع الثروة بعدلٍ لا يقبل التحيّز، بل هو لخير الجميع، وغير محصور في فئة أو شريحة او طائفة او عنصر او دين او كتلة علمية او اقتصادية او سياسية او أدبية. إنه المذهب الذي لا يُؤثر جماعة على جماعة أو شعباً على شعب أو أمة على أمة لأنه مذهب حق وعدل، وخير وجمال، ومحبة ورحمة وإخاء وإنسانية.

هذا هو مذهب القوميّة الاجتماعيّة المحبّة الرحيمة التي لا تقبل بظلم شعب لشعب، ولا باستعباد أمة لأمة، بل يهدف الى تعاون الجميع في مجتمع الأمة ومجتمعات الأمم، والذي قال عنه سعاده في خطابه في الاجتماع القومي الاجتماعي في نادي شرف ووطن في بوانس ايريس كانون الأول سنة 1939: «هوذا صراع عنيف هائل يستولي على العالم كله تقريباً شاطراً إياه الى شطرين لكل شطر منهما مصالحه العميقة في هذا الصراع ولكل جهة من المصالح نظريّات ومبادئ تتستر وراءها وتعلن أنها تحارب من أجلها».

«إن سورية لا تقف تجاه هذا الصراع الهائل واجمة واجفة. ان النهضة السورية القومية الاجتماعية تعلن أن ليس بالمبدأ المادي وحده يُفَسّر التاريخ والحياة تفسيراً صحيحاً ويُشاد نظام عام ثابت في العالم، وأنه ليس بالمبدأ الروحي وحده يحدث ذاك».

 «إننا نقول بأن التاريخ والحياة يُفسّران تفسيراً صحيحاً بمبدأ جامعبفلسفة جديدة تقول إن المادة والروح هما ضروريان كلاهما للعالم».

«إني أقول إن النظام الجديد للعالم لا يمكن أن يقوم على قاعدة الحرب الدائمة بين الروح والمادةبين المبدأ الروحي والمبدأ الماديبين نفي الروح المادة ونفي المادة الروح، بل على قاعدة التفاعل الروحيالمادي تفاعلاً متجانساً على ضرورة المادة للروح وضرورة الروح للمادةعلى أساس ماديروحي يجمع بين ناحيتي الحياة الإنسانية».

«بهذا المبدأبهذه الفلسفةفلسفة القومية الاجتماعيةتتقدم النهضة السورية القومية الاجتماعية الى العالم واثقة أنه يجد فيها الحل الصحيح لمشاكل حياته الجديدة المُعقّدة، والأساس الوحيد لإنشاء نظام جديد تطمئن إليه الجماعات الإنسانيّة كلها وترى فيه إمكانيات الاستقرار السلمي واطراد الارتقاء في سلّم الحياة الجديدة».

 الفلسفة القومية الاجتماعية، بهذا المذهب القومي الاجتماعي الذي اتخذ العقل شرعاً أعلى في الحياة تجد الأمم شاطئ نجاتها من الحروب الهائلة بانعزالها عن بعضها، وباقتتالها فيما بينها، وبسريان الأحقاد والكراهيات في نفوس أبنائها، وبطمع قويّها بثروات ضعيفها، وبتخريب حضاراتها حضارة بعد حضارة، ومدنية تلو مدنية، وأمةً إثر أمة.

القومية الاجتماعية وضعت الأساس المتين للعولمة الإنسانية النافعة لجميع الأمم، وليس العولمة التجارية التي تخدم جشع المحتكرين، ومطامع حكومات المبتزين المضرّة بأصحابها وبالآخرين.

القوميّة الاجتماعيّة فلسفة العولمة الراقية

لا أرى في ختام هذا المقال أفضل من ذكر ما كتبه العالم الاجتماعي والفيلسوف السوري أنطون سعاده في مجلة المجلة في سان باولو البرازيل في نيسان 1925 عن العقل البشريّ والبشرية الذي هو قمة العولمة الحضارية الراقية التي هي هدف كبير من أهداف الفلسفة القومية الاجتماعية الرامية الى عولمة الحق والخير والجمال وهذا ما ما ورد في مقاله «العقل البشريّ هو البشريّة»:

«إن الأمم والشعوب متى كانت منفردة، أي معتزلة الواحدة منها عن الأخرى، لا يمكن أن تتألف منها وحدة تُسمّى «البشرية» أو «الإنسانية» على الإطلاق.

فالإنسانية وتطوّرها باعتبار أنها تركيب كامل لا يتم الا اذا كانت اجزاؤها أو الأمم التي تكوّنها مترابطة ترابطاً تاماً بتلك الواسطة الأساسيّة التي تُسمى العقل البشري.

فالعقل الإنساني هو الإنسانية كلها متى كانت أقسامه على اتصال بعضها ببعض بما يطلق عليه اسم افكار او خواطر تسير بين الأمم كلها.

فإذا لم يكن ذلك، بطل ان تكون هناك إنسانية بمعناها العصري، واقتصرت لفظة الإنسانية على التعبير عن الإنسان تمييزاً له عن الحيوان.

ولا يتسنى لأجزاء العقل البشري أن تكون على اتصال بعضها ببعض إلا إذا توفّرت لها وسائل التفاهم التي تحمل الى العقل السوري أو العقل المصري فكر العقل الانكليزي او الالماني مثلاً.

 لا نظنّ أنه توجد أمة ترضى اعتزال العالم لو خُيِّرت، أو تتمكن من ذلك اذا عقدت النيّة عليه.

بناء عليه، كان واجب كل أمة أن تُسهّل وسائل التفاهم بينها وبين الأمم الأخرى الغريبة عنها. وبناء على هذه النظرية كان واجب الأمم الناطقة بالضاد أن لا تُقصّر في التفاهم مع الأمم الأخرى».

إن العقل الإنساني المركّب من عقليات الأمم الناهضة المتفاعلة فيما بينها هو قاعدة أساس العولمة الإنسانية الحضارية المُحبّة للحياة وسموّ الحياة التي يحتاجها العالم. وكل عولمة لا يكون أساسها العقل الإنساني المحبّ للحياة وسموّ الحياة، ولا تكون فاعلة بقيم الحق والعدل والتراحم والتحابب والتآخي القومي الاجتماعي الإنساني، ولا اتجاهها نحو مرامي الإنسانية في النموّ والتقدم والهناء لجميع بني البشر، ولا يكون صراعها من أجل الحياة الأفضل والمثل العليا السامية هي عولمة باطلة لا جدوى منها ولا نفع.

*كاتب وشاعر قومي مقيم في البرازيل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى