مقالات وآراء

من وحي التّطبيع « العربيّ – الإسرائيليّ» الأخير عجز الأيديولوجيا العربيّة – الإسلاميّة عن مواكبة لغة الحداثة

ـ يُثبت واقعنا العربيّ الإسلاميّ اليوم وأكثر من أيّ وقت آخر، هو نضوج التّواطؤ التّاريخيّ للأيديولوجيا «العربيّة – الإسلاميّة» المنافقة في شكله الصّريح.

ـ تثبت الأحداث الأخيرة، بل وتعزّز قناعة، أنّنا قد وصلنا إلى آخر نتائج الاختبارات الحضاريّة في وجودنا التّاريخيّ.

 

لم تُنقذ، حتّى الآن، تفاصيل الخطاب الأيديولوجيّ «التّحرّريّ» الراهن في منطقتنا منذ عقود طويلة، مشروع المشرق العربيّ من حصاره المعاصر المنظّم من براثن غزارة تنوّعات وسائل وأدوات الإمبرياليّات المعاصرة المختلفة المرتبطة بعملائها المحلّيين والإقليميين..

 

ازدهرت وتزدهر المشاريع الرّافدة للسّياسات المناوئة للتّقدّم والتّنمية والتّحرير، والتي تتنكّبها وتعتمدها قوى وجماعات ودول مأجورة استطاعت حتّى الآن تسويق نفسها.. على أنّها بديلٌ تاريخيّ لانسداد آفاق العبور نحو الجهة الأخرى من الأوطان المنكوبة حيث الأمل بواقع ومستقبل انعتاقيين.

 

معظم ما يبدو من مفاجآت اليوم في ترتيب مشاريع التّطبيع المتلاحقة بزخم الأحقاد الوضيعة المتبادلة ما بين جميع الأطراف ما هو إلّا إشهار وإعلان لاتّجاهات الحداثة الغربيّة، وما بعدها، والمصمّمة من أجل الخنق المتزايد لمنطقتنا أمام المشروع الصّهيونيّ العالميّ بحلله المتبدّلة والمغسولة والمنظّفة باستمرار على إيقاع تحجّم الوعي العربيّ المتضائل والذي يتراجع اليوم كما تشير إليه كلّ المؤشّرات.

 

لقد أصبح مصير الشّعوب والمجتمعات العربيّة رهناً بانسحاقات سياسيّة إعلاميّة بضجيج من المزايدات وبكثير من الإيهام والتّضليل الكفيل بإلغاء الكثير من طاقة الشّعوب وقوى التّحرّر التّاريخيّ فيها، لإنهاء واقع احتساب الشّعوب من جملة العوامل الواقعيّة والثّوابت أو المتغيّرات التي تملي في الممارسة والثّقافة فروضها على الطّبقات السّياسيّة الحاكمة والفئات المثقّفة.

 

فيما اجتاحتنا حداثةُ الآخر أبقتنا كشعوب ودول ومجتمعات ركيكة على ارتدادات للصّدمة الحضاريّة الوافدة الجديدة، كانت عباراتها المباشرة أن تمثّلت في إرجاعنا وإعادتنا إلى تفاصيل الجاهليّة الأولى في الإسلام والجاهليّة الثّانية في العروبة القبليّة في صدر الإسلام وذلك حتّى الجاهليّات المتوالية، الشّعوبيّة ومنتجات الصّليبيّة.. والعثمانيّة.

 

عندما يكبـر الحصار الـذي دخلنا فيه منذ أكثر من قـرن مـن الزّمـان، ويشتدّ هذا الحصار حول أعنـاقنا، نحـن العـرب، في هذه المنطقة مـن العالم، فـإنّ واجبـنا يكـمن في إعـادة مراجعـة الأيديولوجيا أوّلاً، وتالياً في نقـد جـذريّ وشـامل للثّقافات والسّياسـات التـي أدّت بـنا، حـتّى الآن، إلى ما وصلنا إليه.

 

د. بهجت سليمان*

1ـ لسنا ممّن يُحاجج بواحديّة الأثر النّاجم عن الحدث التّاريخيّ. وهذا شأنٌ كان أن قد أسّسه، جرياً على (بليخانوف)، في ما جرى وأُنجِزَ في ما عرف بالمادّيّة التّاريخيّة المتطوّرة أو «الماركسيّة الغربيّة» مع (كارل كورش) و(جورج لوكاتش)، وفي التّطوّرات النّقديّة المحايثة لنظريّة «مدرسة فرانكفورت النّقديّة» في تحليل البنى الواقعيّة على شاقول وإحداثيّات المادّيّة التّاريخيّة، ونقد الأيديولوجيا، بشكل رئيسيّ.

وعلى العكس، ومع اتّجاهات المدرسة الفلسفيّة السّياسيّة النّقديّة «الألمانيّة» المعاصرة، فإنّنا ننظر إلى التّطوّرات السّياسيّة الأخيرة في التّطبيع الأخير من التّطبيعات العربيّة الإسلاميّة الجارية مع «إسرائيل»، في أقلّ من نصف قرن، على أنّه تطبيع يتجاوز مجرّد «الإعلان» عن واقعة، وهو على خلاف ما قد يبدو أنّنا نعتقده من خلال ما قد يبدو علينا من حديث، ولكنّه بالمطلق من التّأكيد على أنّه، وعلى خلاف مع النّظرة التّحليليّة السّاذجة التي اعتمدها الخطاب الإعلاميّ المحلّيّ والإقليميّ المحكوم بالجزئيّة والانعزاليّة والمزايدة والعمى السّياسيّ، إنّما يُعدّ هذا « الحدث» السّياقيّ عملاً تأسيسيّاً مُضافاً في سلسلة الإنكار التّاريخيّ والجينالوجيّ للعروبة والإسلام، وقد لاقى له شرعيّة معاصرة بدعم من مُحايثي الإنسانيّة.. وأصناف الأفراد والشّعوب والدّول والقوى الذين انتظموا اليومَ في خطاب إمبرياليّ متعدّد الأطراف والدّول والقوى العالميّة بتنسيق عالي الأداء من أجل الإحكام على هذه المنطقة إحكاماً نهائيّاً يكاد، يمتدّ زمانه حتّى يغيب من أفق الوعود والمواعيد والتّحليلات والنّظريّات..

كما يُعدّ في الوقت نفسه عودة بالأقدار السّياسيّة إلى طقوس واحتفاليّات التّأسيس الذي وُجِّهت وتُوَجَّهُ نحو إفراغ طاقة المشروع العربيّ الإسلاميّ المحمّديّ الثّوريّ في حينه، والذي شكّل نسقيّاً في ما بعد ظاهرة كابوسيّة على المكان كنسقٍ ثقافيّ وسياسيّ وماليّ واستثماريّ وأخلاقيّ فجائعيّ ومتواطئ وقَبَليّ وعميل.

2 – شكّل الإعلانُ عن اتّفاق التّطبيع الإماراتيّ – «الإسرائيليّ»، مؤخّراً، مفاجأة لكلّ شاردٍ عن السّياسات الدّائرة رحاها في معترك التّحوّلات التّاريخيّة التي تشهدها منطقة «الشّرق الأوسط» عموماً، ومنطقتنا العربيّة المشرقيّة ومحيطها الإقليميّ بشكل خاصّ.

لقد كان من الميول التّاريخيّة «الواقعيّة» أن تُدهِشَ تلك التّحوّلات الكثيرين، بينما كانت تلك التّحوّلات تتراكم بهدوء ووضوح في ظلّ انقلابات التّاريخ والثّقافة والجغرافيا والسّياسات التي ترتّبت على «إنجازات» الحرب الوعرة التي بدأت مع مطلع العقد الأخير من قرننا الحافل بالمتغيّرات، التي ضربت كثيراً من توقّعات الحالمين وصبيان السّياسة والأيديولوجيات الذّرائعيّة والنّفعيّة ذات الآفاق المحدودة والآمال التي لا تمتّ إلى عالم السّياسة اليوم بصلة أو رابطة منطقيّة، في تأويل وتفسير الأحداث التي بدأت عصفها بجدّيّة غير مسبوقة منذ احتلال العراق وحرب تمّوز والحرب على سورية، بما حملته وتحمله تلك الحروب الكارثيّة على منطقتنا وعلى مستقبل نتائج هذه الحرب، التي دحرت نهائيّاً توقّعات الرّاغبين.

وإذا كان المنطق يتحدّد في الفكر بعالم المجرّدات الذي يختزل الوقائع الحيّة إلى نسق آخر، غامض، من الأفكار، إلّا أنّ الممارسات المتواترة في شكلها الذي يصعب ترويضه وضمّه إلى حظيرة المنطق الملموس، فاقت في مرجعيّاتها اكتشافات المنطق السّياسيّ الحصريّ الذي بدا مدحوراً أمام الانقلابات التي تشهدها المنظومات التّقليديّة في شكلها المحفوظ منذ أوائل القرن العشرين الميلاديّ، ناجحاً في قلب المفاهيم السّياسيّة المركون إليها حتّى حينه، مدمّراً نسقَ الأيديولوجيا العربيّة الإسلاميّة المشرقيّة وقد تلقّى ويتلقّى صفعات سياسيّة وثقافيّة متوالية منذ أوّل بدايات هذا العقد الأخير.

3 – لم تُنقذ، حتّى الآن، تفاصيل الخطاب الأيديولوجيّ «التّحرّريّ» الراهن في منطقتنا منذ عقود طويلة، مشروع المشرق العربيّ من حصاره المعاصر المنظّم من براثن غزارة تنوّعات وسائل وأدوات الإمبرياليّات المعاصرة المختلفة المرتبطة بعملائها المحلّيين والإقليميين.. ومرفقاً بانخراط المنافقين من شتّى صنوف المرجعيّات والمصادر العربيّة والإسلاميّة التي ترى في السّياسة احتكاراً واستثماراً من أجل تحقيق مطامح سياسيّة شخصيّة وفرديّة وجماعيّة مشبوهة وتآمريّة، وتأويلاً تاريخيّاً منافقاً للسّياسة والمواجهة المزعومة التي ارتدت في كثير من طيّاتها مشاريع واضحة ووقحة ولا أخلاقيّة وغبيّة، على تذاكيها السّياسيّ الباهت والمستهتر والمحدود، من أجل حرف طاقات ومسارات اهتمامات وطرائق تفكير وانشغالات البشر وتحويلهم إلى أصناف من المدحورين أمام نفاقات السّياسات الرّسميّة العربيّة، التي طوّرتها تلك السّياسات التي احتقرت وتحتقر إلى درجة التّلقائيّة الثّقافيّة الدّينيّة والعقائديّة المشبوهة، جميع طموحات المنخرطين في آمال الوجود الذي صار محكوكاً على نحو مباشر بوقاحات المآلات.

وفي هذه الأثناء ازدهرت وتزدهر المشاريع الرّافدة للسّياسات المناوئة للتّقدّم والتّنمية والتّحرير، والتي تتنكّبها وتعتمدها قوى وجماعات ودول مأجورة استطاعت حتّى الآن تسويق نفسها.. على أنّها بديلٌ تاريخيّ لانسداد آفاق العبور نحو الجهة الأخرى من الأوطان المنكوبة حيث الأمل بواقع ومستقبل انعتاقيين.

4 – في هذا النّمط التّاريخيّ الهجين الذي خلط فيه السّاسة والسّياسيون والمنظّرون الإعلاميون والمحلّلون المشبوهون أوراقه في وظيفيّة تاريخيّة واطئة ومدروسة بعناية كافية لتضليل البسطاء؛ وهو أمرٌ يسيرٌ على أولئك؛ استطاع الإعلام السّياسيّ المحلّيّ والإقليميّ، في كثير من الأحيان، عزل ثقافة المواطنة عن المشاركة في التّفكير عن طريق تدمير جميع وسائل الاستشعار الممكنة التي تتمتّع بها الشّعوب بتعقيمها التّاريخيّ والمطلبيّ، وضرب معظم أنواع وأشكال المشاركات الاجتماعيّة بالمساهمة في تقرير المصير.

لقد أصبح مصير الشّعوب والمجتمعات العربيّة رهناً بانسحاقات سياسيّة إعلاميّة بضجيج من المزايدات وبكثير من الإيهام والتّضليل الكفيل بإلغاء الكثير من طاقة الشّعوب وقوى التّحرّر التّاريخيّ فيها، لإنهاء واقع احتساب الشّعوب من جملة العوامل الواقعيّة والثّوابت أو المتغيّرات التي تملي في الممارسة والثّقافة فروضها على الطّبقات السّياسيّة الحاكمة والفئات المثقّفة، وتلجمها في حفلة إمعان في احتقار مصائر الشّعوب الذي يكمن في أساس ممارسات معظم الحاكمين والسّاسة والمحلّلين والمثقّفين.

5 – في أحد تعبيرات الحداثة كانت الحروب النّابليونيّة إحدى أهمّ ممارسات تدشين الحداثة التي جاءت مع الثّورة البورجوازيّة الفرنسيّة. وقد يبدو أن تاريخ الحداثة الذي انطبع بهذا الامتداد العنفيّ المباشر ما يزال ينسج التّاريخ على منواله منذ أكثر من قرنين من الزّمان.

وبالقدر الذي كانت فيه أهداف تلك الاندياحات الاحتفاليّة القويّة والعنيفة واضحة في العصر الحديث بالنّسبة إلى القوى صاحبة المصلحة في تطوير السّياسات الكولونياليّة المباشرة، التي دشّنها شعور التّفوّق الغربيّ المتفاقم على بقيّة أصقاع الأرض وبخاصّة منها على منطقة «الشّرق الأوسط»، هذا المفتاح الحيويّ لربط الجغرافيا بالسّياسات والمشاريع؛ فإنّه وبالقدر نفسه عملت قوى الهيمنة العالميّة على زرع روح الانزواء التّاريخيّ في تفاصيل يوميّة ازدادت بازدياد الحرمان والجهل والتّجهيل المطبَق على أدمغة ووعي شعوب منطقتنا منذ حملة (نابليون) على (مصر) و(الشّام) (1798م) وانتشار الطّباعة وتمرير المشاريع الخيانيّة المحلّيّة التي ارتبطت زوراً بالإسلام بشكل أساسيّ.

بدأ مع هذه المرحلة إدخال الوعي العربيّ في تفاصيل تجانب الحقائق الوقائعيّة وتقدّمها بشكلها الجزئيّ والتّجزيئيّ في تفاصيل تشتيتيّة موجعة.. والدّخول في التّصنيفات والتّقويمات، وإشغال الوعي العربيّ بأوهام النّضال المزيّف والذي استمرّ إلى هذه اللحظة، وتوجيه وربط الاهتمامات التّاريخيّة بهزالات المقاومات اليوميّة ضدّ العوز العصريّ والحضاريّ الشّامل، وإعمال أهمّيّات تافهة متعلّقة بالعقَديّات الدّينيّة والأيديولوجيّات السّياسيّة الأخرى الفارغة، من قبل طبقة أو طبقات سياسيّة وظيفيّة ومأجورة بعضها على مستوى دول في «المنطقة»، والتي استطاعت في تراكماتها العنجهيّة والعنيفة أن تؤسّس لمرحلة معاصرة تقوم في جوهرها على تشكيلة من الأفكار والمصالح، التي أثبتت «نجاعتها» الكارثيّة والمأساويّة على حاضر ومستقبل منطقتنا البائسة في دائرة من العجز والخوف والعبوديّة التي طُبّقت على الشّعوب..

وغير ذلك، أيضاً؛ هو من أهمّ ما أسّس لهذه الصّيغة المعاصرة من الخطاب السّياسيّ العربيّ الإسلاميّ المتوافق مع اختزال الواقع العربيّ إلى رهينة من رهائن خدمة المشروع الصّهيونيّ العالميّ في «المكان».

6 – حصل الاختراق التّاريخيّ لمنطقتنا العربيّة المشرقيّة، إذاً، في جوار «إسرائيل» ومشروعها العالميّ، منذ عهد مبكّر يعود إلى بدايات القرن التّاسع عشر الميلاديّ، وقد استمرّ بوتائر مطّردة حتّى أخذ شكله المعاصر الصّريح في تجاهل مطلق للحرّيّات الحضاريّة الذي طُبّق على أصول القوى التّحرّريّة وجذورها في المنطقة، إلى أن بدت التّطوّرات الّلاحقة للمشروع الإمبرياليّالرّجعيّ العربيّ الإسلاميّ، بحيث أنّ معظم ما يبدو من مفاجآت اليوم في ترتيب مشاريع التّطبيع المتلاحقة بزخم الأحقاد الوضيعة المتبادلة ما بين جميع الأطراف.. إن هو إلّا إشهار وإعلان لاتّجاهات الحداثة الغربيّة، وما بعدها، والمصمّمة من أجل الخنق المتزايد لمنطقتنا أمام المشروع الصّهيونيّ العالميّ بحلله المتبدّلة والمغسولة والمنظّفة باستمرار على إيقاع تحجّم الوعي العربيّ المتضائل والذي يتراجع اليوم كما تشير إليه كلّ المؤشّرات.

7 – ليس ما يحصل وما قد حصل مؤخّراً من إشهار للهزائم العربيّة الإسلاميّة المتوالية في إطار «الحداثة» العالميّة، بتطبيع القرن الحادي والعشرين الميلاديّ، مع الكيان «الإسرائيليّ»، هذا « التّطبيع « الوجوديّ التّاريخيّ الفظيع، سوى تسمية الوقائع بأسمائها التي كانت تخجل عنها، إلى حين، قوى ومشاريع التّزييف الأيديولوجيّة والسّياسيّة العربيّة والإسلاميّة، وهو إلى ذلك لم « يُفاجئ».. سوى الخادعين أنفسهم بواسطة مزاعم بقايا النّظام العربيّ الرّسميّ وزبانيته ومتواطئيه من أنصار أو معارضات الثّقافة والسّياسة والمال الرّجعيّ العربيّ ومشاريع «الخلافات» الإمبراطوريّة الدّينيّة والمرجعيّات والهويّات الجامعة الإسلاميّة ومنظريها البائسين !

8 – وفيما اجتاحتنا حداثةُ الآخر أبقتنا كشعوب ودول ومجتمعات ركيكة على ارتدادات للصّدمة الحضاريّة الوافدة الجديدة، كانت عباراتها المباشرة أن تمثّلت في إرجاعنا وإعادتنا إلى تفاصيل الجاهليّة الأولى في الإسلام والجاهليّة الثّانية في العروبة القبليّة في صدر الإسلام وذلك حتّى الجاهليّات المتوالية، الشّعوبيّة ومنتجات الصّليبيّة.. والعثمانيّة إلى آخر تلك الارتدادات الصّدميّة المعاصرة، التي انقشعت في أقبح أشكالها المعاصرة في السّلفيّة الدّينيّة والأخونجيّة والوهابيّة وتمظهراتها في الإرهاب.

استطاعت الحداثة بمغرياتها للمأجورين، وهم كثرة اجتماعيّة وسّياسيّة ورجعيّة دينيّة، أنْ تدحر مجتمعاتنا في الوعي وفي اللاوعي إلى هامش الغرق في تفاصيل مشاريع الآخرين فيما كان اعتقاد الأغلبيّة بيننا، أنّنا ندخل فعلاً عصر الحداثة العالميّة، بينما كنّا نصنع من أنفسنا وقوداً لحداثات العالم المعاصر، التي ترتّبتْ ببساطة حولنا على هزالاتنا القوميّة والدّينيّة والأخلاقيّة السّياسيّة، أو السّياسات اللاأخلاقيّة، التي صنعتنا في العبوديّة المزمنة للمنظومات والنّظم والنّظريّة والممارسة، وكذلك في الخنوع والإذعان.

قامت هذه التّفاصيل المُغرقة في العمى والتّخلّف واللؤم والحقد والتّشرذم والانغلاق، مقامَ حداثات الآخرين وقد تطوّرت إلى عصر الإمبرياليّة والنيوليبيراليّة الذي لم يعصف بالمنطقة، كما يعصف اليوم.

9 – ما يُثبته واقعنا العربيّ الإسلاميّ اليوم وأكثر من أيّ وقت آخر، إنّما هو نضوج التّواطؤ التّاريخيّ للأيديولوجيا «العربيّةالإسلاميّة» المنافقة في شكله الصّريح الذي كان في تعمّل حتّى هذا الحين.

لقد أُغرقت الشّعوب العربيّة ذات المرجعيّات الثّقافيّة الدّينيّة الهزيلة في لوثة تاريخيّة مديدة من لوثات التّفاصيل التي حيّدت في غمارها كلّ رؤية نقديّة، كانت من احتمالات مشاريع قادة الرّأي النّقديّ القوميّ ومفكّري الحداثة وما بعد الحداثة في المنطقة العربيّة المشرقيّة، وأجهزت على لغة الانتماء الوطنيّ إلى منجزات الحداثة العالميّة بشكل أساسيّ وجعلت من شعوب المنطقة ملحقات تابعة وذيليّة لثقافة الإعلام الأيديولوجيّ الرّجعيّ، الذي قام مقام مشاعر التّحرّر ونظم التّقدّم ومنظومات التّطوير.

ساهم في ذلك بداءة النّظام العربيّ الرّسميّ في اعتياشه على عواطف الشّعوب العربيّة وإيهامها ببعض شعارات الحرّيّة والعدالة والتّنمية والحرّيّة والتّحرير، وساهمت في ذلك، بطبيعة الحال، مآثر «الثّقافة» العميلة بقدر ما ساهمت في ذلك مآثر «السّياسة» الأنانيّة والخانعة والذّليلة.

وفي هذا التّعاضد التّاريخيّ المشبوه بين الضّحيّة والجلّاد استحال الجميع إلى تشخيص مُقرف للخطيئة السّياسيّة التّاريخيّة التي كانت أن استهلكت لها، أوّل ما استهلكت، طموحات البشر الإنسانيّة في هذه البقعة المنكوبة بـ»السّياسة» و»الثّقافة» في هذه البقعة من العالم المتوتّر بالمشاريع والمخطّطات في مركزه المحرّك في أتون بؤرة القوّة والعنف، التي تولّت توزيع المظالم على هامشه أو هوامشه التي تعجّ بالأحلام والآلام البشريّة التي ليس لها شِفاء.

10 – في حديث قديم لنا كنّا قد تواصلنا فيه مع قرّائنا الأعزّاء طرحنا مسألة لم يعرها كثيرون الانتباه اللازم، وهي أنّ من أولويّات «إسرائيل» المعاصرة، في إطار تطوير أدواتها السّياسيّة التّاريخيّة، أنّها تعمل على أن تجعل من «أمنها القوميّ» جزءاً من الأمن القوميّ «العربيّ»، لتتجاوز في ذلك عزلتها الدّيموغرافيّة، وتتجنّب الأعمال الاستئصاليّة «الاحتماليّة».. المنفردة عربيّاً، التي ربّما هي من ضمن قائمة الوقائيّات «الإسرائيليّة» لضمان مستقبل دائم وعضويّ في جسد المكان.

ولم نطوّر هذا «المفهوم» السّياسيّ، حتّى الآن، نظراً لعدم الاستجابة المفهوميّة له، أو المحفوف بالفهم المحدود والمُتجاهل والسّريع. وها هي اليوم «إسرائيل» تصل إلى تعضٍّ سياسيّ وتاريخيّ لا رجعة عنه مع النّظام العربيّ الرّسميّ بما هو قائم على قائمة تدحرجات التّطبيع وتوسيع دائرة علاقاتها مع الدّول العربيّة بالتّتالي والتّرتيب.

11 – لا ينفع ولن ينفع بعد كلّ هذه التّطوّرات الجارية في المحيط «الإسرائيليّ» ذلك الخطاب المتصلّب على خياناته وأعلامه المشكوك في وطنيّتهم وقوميّتهم والخادمين لأساليب التّثقيف المضلّل وحرف الانتباه عن الحقائق ونتائجها على الأرض وفي الوعي، والذي أصبح مجرّد خطاب للاستهلاك الإعلاميّ المؤقّت والعابر والمسموم.

لقد أثبتت اليوم المشاريع التّبويقيّة السّياسيّة أنّها عبارة عن إلهاء للوعي الوطنيّ إزاء ما يتنامى في كلّ لحظة من تهديدات وطنيّة وقوميّة بحقّ حاضر ومستقبل المشروع العربيّ التّحرّريّ، ومستقبل الاندماج الوطنيّ في مشروع العالم السّياسيّ.

وأن نعيش في هذا العالم يعني أن نتحمّل نصيبنا من إنجازه وتطويره في وسط من العدالة التي تمنحنا طاقة الوجود أوّلاً ومن ثمّ طاقة المشاركة وتبادل الحضور.

12 – تثبت الأحداث الأخيرة، بل وتعزّز قناعة، أنّنا قد وصلنا إلى آخر نتائج الاختبارات الحضاريّة في وجودنا التّاريخيّ، وأنّه قد حان الوقت من أجل طرح الأسئلة المسكوت عليها حتّى الآن والمتعلّقة بمدى وكفاية فهمنا الثّقافيّ والسّياسيّ لتركيبة المحيط العربيّ المشرقيّ، التي أثبتت وتثبت غزارة مكنوناتها من المفاجآت المتناسبة مع الهروب المحدّد من تلبية مطالب أسئلة لم نجرؤ بعد على طرحها أو إثارتها في مناسباتها الخاصّة.

تتعلّق هذه الأسئلة أساساً بجذريّات قلقة وخائفة ومخيفة تبعاً لعلاقتها مع الأطراف الاجتماعيّة والثّقافيّة والسّياسيّة وبخاصّة في الدّول العربيّة القليلة ذات الأنظمة الوطنيّة المؤهّلة لخوض صراع الدّفاع عن الوجود.

ويستتر وراء هذه الأسئلة تساؤلات أوّليّة ينبغي أن تكون حاسمة في أجوبتها السّريعة التي لم تعد تحتمل التّأخير أو التّأجيل.

هل نرتقي بأنفسنا إلى مستوى القدرة على أن نحمل على عاتقنا قضيّتنا العربيّة العادلة؟

هل نعرف كيف نقوم بتوصيفها بعيداً عن الاجترارات الأيديولوجيّة التي أثبتت قدرة الكثيرين على «تنكّبها» وخيانتها في وقت واحد؟

هل لنا أن نتجاوز ثرثرات الشّرح التي لا طائل وراءها والعبور نحو نُظم معاصِرة من إدارة المعطيات؟

هل هنالك الكثير ممن يؤمن فعلاًلا قولاً فارغاًبعدالة قضايانا التي لا نرجو وراءها أكثر من وجود أخلاقيّ ضروريّ وواجب وحقّ؟

هل حقوقنا في الوجود والعيش المحترم هي واقع أم هي مجرّد عطايا ننتظرها من الآخرين؟

هل نحن، بالفعل، شعوباً ودولاً، من المزمنين في وجودنا في هذا المكان، أم أنّنا، عابرون وطارئون؟

هل تتخطّى خطابات الكثيرين منا وخطبنا الثّقافيّة والسّياسيّة الملتهبة حناجرنا، أم هي مجرّد وصفة للغرغرة تجنّباً للخَرَس؟

13 – وعندما يكبر الحصار الذي دخلنا فيه منذ أكثر من قرن من الزّمان، ويشتدّ هذا الحصار حول أعناقنا، نحن العرب، في هذه المنطقة من العالم، فإنّ واجبنا يكمن في إعادة مراجعة الأيديولوجيا أوّلاً، وتالياً في نقد جذريّ وشامل للثّقافات والسّياسات التي أدّت بنا، حتّى الآن، إلى ما وصلنا إليه، بما يُمكّننا من دحض لمزاعم خاصّة بجميع المعطيات السّياسيّة التي توفّرت لنا في البرامج والمناهج والنّظم والمنظومات وأشكال السّياسة والحكم والملك وصياغات الخطط والمخططات.

مخاطر العالم في منطقتنا تتفاقم، وعلينا كسر جميع الأدوات المجرّبة والفاشلة التي جرى اختبارها وباء جميعها بفشل ذريع..

فيما يعمل كثيرون بيننا على الإصرار على إعادة تجربتها وقد أنّتْ هي نفسها تحت سوء الاجترار والتّكرار، ولم ييأس من عجزها المطلق من لا يزالون يراهنون على سذاجة البشر وقصورهم الذّاتيّ والموضوعيّ، تحقيقاً لأهداف ذاتيّة متكالبة على حساب الزّمان والمكان.

14- يتجاوز، هكذا، الأمر مشكلة «التّطبيع» لحاضر احتواء «إسرائيل» في أحضان العرب والمسلمين، نحو مصادرة مستقبل كامل ومطلق، ربّما لن يجد من عملوا على مقدّماته اليوم، لهم، ومن وقف متفرّجاً على ذلك، مكاناً فيه أو حتّى في أقصى محيطه النّائي والبعيد.

وفيما تتحطّم الجدران العازلة للعرب والمسلمين التي «تحميهم» من المشروع الصّهيونيّ الجائح في المنطقة والعالم، فإنّ «إسرائيل» تُعدّ، وعلى الملأ، مستقبلاً مُظلماً وصريحاً لسلسلة من تسميات الدّول العربيّة المقبلة إلى هذه الاحتفاليّة السّياسيّة التّاريخيّة التي تقيمها «إسرائيل»، بينما البقيّة يدخلون في حيرة وتردّد وحفلة مشاهدة وتخلٍّ.. واستهتار، أو كذلك، في اندماجيّة لا يعيرون فيها انتباههم إلى التهاميّتها في مشروعها «الواعد» المدمّر الطّاغي، ما لَمْ نرتق إلى مستوى الحدث الذي يدشّن لمرحلة تاريخيّة جديدة من انهزاميّة علنيّة أمام «الواقع» الذي يتحدّى في معطياته قوانين الخطاب التّفاصيليّ المزيّف والضّائع في أروقة الذّهول.

تُرى، كم نحتاج بعد هذا الذي جرى ويجري وما سوف يجري بالطّبيعة والتّلقائيّة، إلى نفض خيوط شبكات العنكبوت التي نسجَتْ غبارها على الكثير من معتقداتنا ومحفوظاتنا وثقافاتنا وسياساتنا إلى آخر ما هنالك ممّا نعتقده من ملكيّات أثيرة وتكالبيّة وحصريّة ومحفوظات وثقافات وسياسات؟!

 

* سفير سوري سابق في الأردن ولواء ركن سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى